كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 3)

وَالْبَاقِي مِنِّي لَك وَصِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ ثُمَّ مَاتَ فَإِمَّا أَنْ يُعَيِّنَ قَدْرًا أَوْ لَا فَإِنْ عَيَّنَ قَدْرًا اُتُّبِعَ مَا عَيَّنَهُ حَتَّى لَا يَجُوزُ النَّقْصُ عَنْهُ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ قَرِيبًا فِي مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ: رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ، وَأَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَتَرَكَ تِسْعَمِائَةٍ، وَأَنْكَرَ أَحَدُهُمَا، وَأَقَرَّ الْآخَرُ، وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْمَالِ ثُمَّ إنَّ الْمُقِرَّ دَفَعَ مِائَةً وَخَمْسِينَ يُحَجُّ بِهَا عَنْ الْمَيِّتِ ثُمَّ أَقَرَّ الْآخَرُ إنْ أَحَجَّ بِأَمْرِ الْقَاضِي يَأْخُذْ الْمُقِرُّ مِنْ الْجَاحِدِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ دِرْهَمًا؛ لِأَنَّهُ جَازَ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ وَبَقِيَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ مِيرَاثًا لَهُمَا فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهُ، وَإِنْ أَحَجَّ لِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَحُجُّ مَرَّةً أُخْرَى بِثَلَاثِمِائَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِثَلَاثِمِائَةٍ. اهـ.
وَمَعَ التَّعْيِينِ الْمَذْكُورِ لَا يَحِلُّ لِلْمَأْمُورِ الْمَذْكُورِ مَا فَضَلَ بَلْ يَرُدُّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالُوا لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْطَى بَعِيرُهُ هَذَا رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْهُ فَدُفِعَ إلَى رَجُلٍ فَأَكْرَاهُ الرَّجُلُ فَأَنْفَقَ الْكِرَاءَ عَلَى نَفْسِهِ فِي الطَّرِيقِ وَحَجَّ مَاشِيًا جَازَ عَنْ الْمَيِّتِ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ خَالَفَ أَمْرَهُ وَصَحَّحَهُ فِي الْمُحِيطِ، وَقَالَ أَصْحَابُ الْفَتَاوَى: هُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ أَنْ يَمْلِكَ رَقَبَتَهَا بِالْبَيْعِ وَيَحُجَّ بِالثَّمَنِ اسْتِحْسَانًا هُوَ الْمُخْتَارُ فَلَأَنْ يَمْلِكَ أَنْ يُمَلِّكَ مَنْفَعَتَهَا بِالْإِجَارَةِ وَيَحُجَّ بِبَدَلِ الْمَنْفَعَةِ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ يَكُونُ الْكِرَاءُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ، وَالْحَجُّ لَهُ فَيَتَضَرَّرُ الْمَيِّتُ ثُمَّ يَرُدُّ الْبَعِيرَ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ. اهـ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ خَرَجَتْ عَنْ الْأَصْلِ لِلضَّرُورَةِ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِالْحَجِّ رَاكِبًا إذَا حَجَّ مَاشِيًا فَإِنَّهُ يَكُونُ مُخَالِفًا، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ الْمُوصِي قَدْرًا فَإِنَّ الْوَرَثَةَ يَحُجُّونَ عَنْهُ مِنْ الثُّلُثِ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ وَلِهَذَا قَالَ: الْوَلْوَالِجِيُّ فِي فَتَاوِيهِ رَجُلٌ مَاتَ، وَأَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ، وَلَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ مَالًا فَالْوَصِيُّ إنْ أَعْطَى إلَى رَجُلٍ لِيَحُجَّ عَنْهُ فِي مَحْمَلٍ احْتَاجَ إلَى أَلْفٍ، وَمِائَتَيْنِ، وَإِنْ حَجَّ رَاكِبًا لَا فِي مَحْمَلٍ يَكْفِيهِ الْأَلْفُ وَكُلُّ ذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ يَجِبُ أَقَلُّهُمَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ. اهـ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَأْمُورَ لَا يَكُونُ مَالِكًا لِمَا أَخَذَهُ مِنْ النَّفَقَةِ بَلْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ عَلَى مِلْكِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا مُعَيَّنًا كَانَ الْقَدْرُ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْفَضْلُ إلَّا بِالشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ سَوَاءٌ كَانَ الْفَضْلُ كَثِيرًا أَوْ يَسِيرًا كَيَسِيرٍ مِنْ الزَّادِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ الْحَجَّةُ الْمَشْرُوطَةُ مِنْ جِهَةِ الْوَاقِفِ كَمَا شَرَطَ سُلَيْمَانُ بَاشَا بِوَقْفِهِ بِمِصْرَ قَدْرًا مُعَيَّنًا لِمَنْ يَحُجُّ عَنْهُ كُلَّ سَنَةٍ فَإِنَّهُ يُتَّبَعُ شَرْطُهُ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمَأْمُورِ مَا فَضَلَ مِنْهُ بَلْ يَجِبُ رَدُّهُ إلَى الْوَقْفِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ أَمَّا إذَا قَالَ: أَحِجُّوا فُلَانًا حَجَّةً، وَلَمْ يَقُلْ عَنِّي، وَلَمْ يُسَمِّ كَمْ يُعْطَى فَإِنَّهُ يُعْطَى قَدْرَ مَا يَحُجُّ بِهِ وَيَكُونُ مِلْكًا لَهُ، وَإِنْ شَاءَ حَجَّ بِهِ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحُجَّ، وَهُوَ وَصِيَّةٌ كَمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ.
فَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ فَلِلْمَأْمُورِ بِالْحَجِّ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَعْرُوفِ ذَاهِبًا وَآيِبًا، وَمُقِيمًا مِنْ غَيْرِ تَبْذِيرٍ، وَلَا تَقْتِيرٍ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَثِيَابِهِ وَرُكُوبِهِ، وَمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ مِنْ مَحْمَلٍ، وَقِرْبَةٍ، وَأَدَوَاتِ السَّفَرِ فَلَوْ تَوَطَّنَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَإِنْ كَانَ لِانْتِظَارِ الْقَافِلَةِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَإِلَّا فَمِنْ مَالِ نَفْسِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ مِنْ أَنَّهُ إذَا تَوَطَّنَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَهُوَ عَدَمُ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ، وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ اعْتِبَارِ الثَّلَاثِ، وَإِذَا صَارَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ بَعْدَ خُرُوجِهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ رَجَعَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ اسْتَحَقَّ نَفَقَةَ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ، وَهُوَ كَالنَّاشِزَةِ إذَا عَادَتْ إلَى الْمَنْزِلِ وَالْمُضَارِبِ إذَا أَقَامَ فِي بَلَدٍ أَوْ بَلْدَةٍ أُخْرَى خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، وَفِي الْبَدَائِعِ هَذَا إذَا لَمْ يَتَّخِذْ مَكَّةَ دَارًا فَأَمَّا إذَا اتَّخَذَهَا دَارًا ثُمَّ عَادَ لَا تَعُودُ النَّفَقَةُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ أَقَامَ بِهَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ قَالُوا إنْ كَانَتْ الْإِقَامَةُ مُعْتَادَةً لَمْ تَسْقُطْ، وَإِنْ زَادَ عَلَى الْمُعْتَادِ سَقَطَتْ، وَلَوْ تَعَجَّلَ إلَى مَكَّةَ فَهِيَ فِي مَالِ نَفْسِهِ إلَى أَنْ يَدْخُلَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ فَتَصِيرُ فِي مَالِ الْآمِرِ، وَلَوْ سَلَكَ طَرِيقًا أَبْعَدَ مِنْ الْمُعْتَادِ إنْ كَانَ مِمَّا سَلَكَهُ النَّاسُ فَفِي مَالِ الْآمِرِ، وَإِلَّا فَفِي مَالِهِ، وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQمُخَالِفًا (قَوْلُهُ:؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْآخِرَةِ) تَعْلِيلُ الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْآخِرَةُ بِحَرَكَاتٍ أَيْ آخِرَ الْأَمْرِ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ إلَى مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ بِالْإِجَارَةِ (قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ الْمُوصِي قَدْرًا) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَإِنْ عَيَّنَ قَدْرًا اُتُّبِعَ (قَوْلُهُ: وَهُوَ عَدَمُ خُرُوجِ الْقَافِلَةِ) الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى عُذْرٍ الْمُضَافِ إلَى غَيْرِ (قَوْلُهُ: قَالُوا إنْ كَانَتْ إقَامَةً مُعْتَادَةً لَمْ تَسْقُطْ) ظَاهِرُهُ، وَلَوْ بِلَا عُذْرِ انْتِظَارِ الْقَافِلَةِ، وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهُ.

الصفحة 69