كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 3)

الِاسْتِحْبَابَ، وَكَثِيرًا مَا يُتَسَاهَلُ فِي إطْلَاقِ الْمُسْتَحَبِّ عَلَى السُّنَّةِ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَصَرَّحَ فِي الْمُحِيطِ أَيْضًا بِأَنَّهَا مُؤَكَّدَةٌ، وَمُقْتَضَاهُ الْإِثْمُ لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ تَرْكَ الْمُؤَكَّدَةِ مُؤَثِّمٌ كَمَا عُلِمَ فِي الصَّلَاةِ.
وَأَفَادَ بِذِكْرِ وُجُوبِهِ حَالَةَ التَّوَقَانِ أَنَّ مَحَلَّ الْأَوَّلِ حَالَةُ الِاعْتِدَالِ كَمَا فِي الْمَجْمَعِ وَالْمُرَادُ بِهَا حَالَةُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَطْءِ وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مَعَ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنْ الزِّنَا وَالْجَوْرِ وَتَرْكِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ أَوْ خَافَ وَاحِدًا مِنْ الثَّلَاثَةِ فَلَيْسَ مُعْتَدِلًا فَلَا يَكُونُ سُنَّةً فِي حَقِّهِ كَمَا أَفَادَهُ فِي الْبَدَائِعِ وَدَلِيلُ السُّنِّيَّةِ حَالَةَ الِاعْتِدَالِ الِاقْتِدَاءُ بِحَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفْسِهِ وَرَدُّهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ مِنْ أُمَّتِهِ التَّخَلِّيَ لِلْعِبَادَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ رَدًّا بَلِيغًا بِقَوْلِهِ «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» كَمَا أَوْضَحَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَالتَّوَقَانُ مَصْدَرُ تَاقَتْ نَفْسُهُ إلَى كَذَا إذَا اشْتَاقَتْ مِنْ بَابِ طَلَبَ كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَخَافُ مِنْهُ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ الِاشْتِيَاقِ إلَى الْجِمَاعِ الْخَوْفُ الْمَذْكُورُ، وَأَرَادَ بِالْوَاجِبِ اللَّازِمَ فَيَشْمَلُ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ الِاصْطِلَاحِيَّ فَإِنَّا قَدَّمْنَا أَنَّهُ فَرْضٌ وَوَاجِبٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ حَرَامٌ أَوْ مَكْرُوهٌ كَمَا فِي الْمَجْمَعِ؛ لِأَنَّ الْجَوْرَ حَرَامٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ شَخْصٍ، وَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِالنِّكَاحِ حَتَّى يُجْعَلَ مِنْ أَحْكَامِهِ وَصِفَتِهِ وَالْجَوْرُ الظُّلْمُ يُقَالُ جَارَ أَيْ ظَلَمَ، وَأَفَادَ بِالسُّنِّيَّةِ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ وَلِذَا قَالَ: فِي الْمَجْمَعِ وَنُفَضِّلُهُ عَلَى التَّخَلِّي لِلنَّوَافِلِ وَاسْتَدَلَّ لَهُ فِي الْبَدَائِعِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ السُّنَنَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى النَّوَافِلِ بِالْإِجْمَاعِ.
الثَّانِي أَنَّهُ أَوْعَدَ عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ، وَلَا وَعِيدَ عَلَى تَرْكِ النَّوَافِلِ. الثَّالِثُ أَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَاظَبَ عَلَيْهِ وَثَبَتَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَمْ يَخْلُ عَنْهُ بَلْ كَانَ يَزِيدُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ التَّخَلِّي لِلنَّوَافِلِ أَفْضَلَ لَفَعَلَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ أَفْضَلِيَّتُهُ فِي حَقِّهِ ثَبَتَتْ فِي حَقِّ أُمَّتِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَائِعِ هُوَ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ بِدَلِيلٍ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُ سَبَبٌ مُوصِلٌ إلَى مَا هُوَ مُفَضَّلٌ عَلَى النَّوَافِلِ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ الْفَاحِشَةِ وَلِصِيَانَةِ نَفْسِهَا عَنْ الْهَلَاكِ بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ وَلِحُصُولِ الْوَلَدِ الْمُوَحِّدِ، وَأَمَّا مَدْحُهُ تَعَالَى يَحْيَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِكَوْنِهِ سَيِّدًا وَحَصُورًا، وَهُوَ مَنْ لَا يَأْتِي النِّسَاءَ مَعَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ فِي شَرِيعَتِهِمْ لَا فِي شَرِيعَتِنَا. اهـ.
وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِكَوْنِهِ سُنَّةً أَوْ وَاجِبًا إلَى اسْتِحْبَابِ مُبَاشَرَةِ عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ لِكَوْنِهِ عِبَادَةً وَصَرَّحُوا بِاسْتِحْبَابِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاخْتَلَفُوا فِي كَرَاهِيَةِ الزِّفَافِ وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إلَّا إذَا اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ دِينِيَّةٍ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ» كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَفِي الذَّخِيرَةِ ضَرْبُ الدُّفِّ فِي الْعُرْسِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَمَحَلُّهُ مَا لَا جَلَاجِلَ لَهُ أَمَّا مَا لَهُ جَلَاجِلُ فَمَكْرُوهٌ، وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْغِنَاءِ فِي الْعُرْسِ وَالْوَلِيمَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بِعَدَمِ كَرَاهَتِهِ كَضَرْبِ الدُّفِّ. اهـ.
وَفِي فَتَاوَى الْعَلَّامِيِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ نُدِبَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَامِنٌ لَهُ الْأَدَاءَ فَلَا يَخَافُ الْفَقْرَ إذَا كَانَ مِنْ نِيَّتِهِ التَّحْصِينُ وَالتَّعَفُّفُ وَيَتَزَوَّجُ امْرَأَةً صَالِحَةً مَعْرُوفَةَ النَّسَبِ وَالْحَسَبِ وَالدِّيَانَةِ فَإِنَّ الْعِرْقَ نَزَّاعٌ وَيَجْتَنِبُ الْمَرْأَةَ الْحَسْنَاءَ فِي مَنْبَتِ السُّوءِ، وَلَا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً لَحَسِبَهَا، وَعِزِّهَا، وَمَالِهَا وَجَمَالِهَا فَإِنْ تَزَوَّجَهَا لِذَلِكَ لَا يُزَادُ بِهِ إلَّا ذُلًّا، وَفَقْرًا وَدَنَاءَةً وَيَتَزَوَّجُ مَنْ هِيَ فَوْقَهُ فِي الْخُلُقِ وَالْأَدَبِ وَالْوَرَعِ وَالْجَمَالِ وَدُونَهُ فِي الْعِزِّ وَالْحِرْفَةِ وَالْحَسَبِ وَالْمَالِ وَالسِّنِّ وَالْقَامَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْسَرُ مِنْ الْحَقَارَةِ وَالْفِتْنَةِ، وَيَخْتَارُ أَيْسَرَ النِّسَاءِ خُطْبَةً، وَمُؤْنَةً وَنِكَاحُ الْبِكْرِ أَحْسَنُ لِلْحَدِيثِ «عَلَيْكُمْ بِالْأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا، وَأَنْقَى أَرْحَامًا، وَأَرْضَى بِالْيَسِيرِ» ، وَلَا يَتَزَوَّجُ طَوِيلَةً مَهْزُولَةً، وَلَا قَصِيرَةً ذَمِيمَةً، وَلَا مُكْثِرَةً، وَلَا سَيِّئَةَ الْخُلُقِ، وَلَا ذَاتَ الْوَلَدِ، وَلَا مُسِنَّةً لِلْحَدِيثِ «سَوْدَاءُ وَلُودٌ خَيْرٌ مِنْ حَسْنَاءَ عَقِيمٍ» ، وَلَا يَتَزَوَّجُ الْأَمَةَ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ، وَلَا حُرَّةً بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا لِعَدَمِ الْجَوَازِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَلَا زَانِيَةً.
وَالْمَرْأَةُ تَخْتَارُ الزَّوْجَ الدَّيِّنَ الْحَسَنَ الْخُلُقِ الْجَوَادَ الْمُوسِرَ، وَلَا تَتَزَوَّجُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQيَكُونُ إثْمُهُ أَشَدَّ مِنْ تَرْكِهِ عِنْدَ عَدَمِ التَّوَقَانِ. (قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَخَافَ مِنْهُ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا) أَيْ الْخَوْفُ بِمَعْنَيَيْهِ السَّابِقَيْنِ لِحَمْلِهِ الْوَاجِبَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْفَرْضَ.

الصفحة 86