كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 4)

لِلْفَتْوَى الْحِنْثُ قَالَ لَهَا، وَهِيَ فِي بَيْتِ أُمِّهَا إنْ لَمْ أَذْهَبْ بِك إلَى دَارِي فَأَنْت طَالِقٌ ثُمَّ أَخْرَجَهَا مِنْ دَارِ أُمِّهَا فَهَرَبَتْ مِنْهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِهَا وَقَعَ. حَلَفَ لَا يَسْكُنُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ إلَّا بِطَرْحِ نَفْسِهِ عَنْ الْحَائِطِ بَعْدَمَا أُوثِقَ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ وَجَدَ الْبَابَ مُغْلَقًا لَمْ يُمْكِنْهُ فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ وَلَوْ قَالَ: إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَنْزِلِ الْيَوْمَ فَقَيَّدَ وَمَنَعَ حَنِثَ.
وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا فِي مَنْزِلِ وَالِدِهَا إنْ لَمْ تَحْضُرِي فِي مَنْزِلِي اللَّيْلَةَ فَأَنْت طَالِقٌ فَمَنَعَهَا الْوَالِدُ مِنْ الْحُضُورِ تَطْلُقُ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَلَوْ قَالَ لِأَصْحَابِهِ إنْ لَمْ أَذْهَبْ بِكُمْ اللَّيْلَةَ إلَى مَنْزِلِي فَذَهَبَ بِهِمْ بَعْضَ الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُمْ الْعَسَسُ فَحَبَسَهُمْ لَا يَحْنَثُ. إنْ لَمْ أَعْمَلْ هَذِهِ السَّنَةَ فِي الْمُزَارَعَةِ بِتَمَامِهَا فَمَرِضَ وَلَمْ يُتِمَّ حَنِثَ، وَلَوْ حَبَسَهُ السُّلْطَانُ لَا يَحْنَثُ اهـ.
أَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ إنْ لَمْ أُخَرِّبْ، وَإِنْ لَمْ أَذْهَبْ بِك، وَإِنْ لَمْ أَخْرُجْ، وَإِنْ لَمْ تَحْضُرِي مَنْزِلِي سَوَاءٌ فِي أَنَّ الْقَيْدَ وَالْمَنْعَ لَا يَمْنَعُ الْحِنْثَ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ، وَلِلْإِكْرَاهِ تَأْثِيرٌ فِي الْفِعْلِ بِالْإِعْدَامِ كَالسُّكْنَى لَا فِي الْعَدَمِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْعَدَمُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ الْإِكْرَاهُ، وَإِنَّمَا يُشْكِلُ مَسْأَلَةُ الْعَسَسِ فَإِنَّ الشَّرْطَ الْعَدَمُ، وَقَدْ أَثَّرَ فِيهِ الْحَبْسُ، وَكَذَا يُشْكِلُ مَسْأَلَةُ إنْ لَمْ أَعْمَلْ هَذِهِ السَّنَةَ فَإِنَّ الشَّرْطَ الْعَدَمُ، وَقَدْ أَثَّرَ فِيهِ حَبْسُ السُّلْطَانِ، وَمِنْهَا مَا فِي الْخَانِيَّةِ امْرَأَةٌ دَفَعَتْ مِنْ كِيسِ زَوْجِهَا دِرْهَمًا فَاشْتَرَتْ بِهِ لَحْمًا، وَخَلَطَ اللَّحَّامُ الدِّرْهَمَ بِدَرَاهِمِهِ، وَقَالَ لَهَا الزَّوْجُ إنْ لَمْ تَرُدِّي عَلَيَّ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ الْيَوْمَ فَأَنْت طَالِقٌ فَمَضَى الْيَوْمُ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ فَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ لِلْخُرُوجِ عَنْ الْيَمِينِ أَنْ تَأْخُذَ الْمَرْأَةُ كِيسَ اللَّحَّامِ وَتُسَلِّمَهُ إلَى الزَّوْجِ اهـ.
وَذَكَرَ قَبْلَهُ رَجُلٌ دَفَعَ إلَى امْرَأَتِهِ دِرْهَمًا ثُمَّ قَالَ مَا فَعَلْت بِالدِّرْهَمِ فَقَالَتْ اشْتَرَيْت بِهِ اللَّحْمَ فَقَالَ الزَّوْجُ إنْ لَمْ تَرُدِّي عَلَيَّ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ فَأَنْت طَالِقٌ، وَقَدْ ضَاعَ الدِّرْهَمُ مِنْ يَدِ الْقَصَّابِ قَالُوا مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ أُذِيبَ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ أَوْ سَقَطَ فِي الْبَحْرِ لَا يَحْنَثُ اهـ.
وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فَعُلِمَ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُمْ يُشْتَرَطُ لِبَقَاءِ الْيَمِينِ إمْكَانُ الْبِرِّ إنَّمَا هُوَ، وَفِي الْمُقَيَّدَةِ بِالْوَقْتِ فَعَدَمُهُ مُبْطِلٌ لَهَا أَمَّا الْمُطْلَقَةُ فَعَدَمُهُ مُوجِبٌ لِلْحِنْثِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ إمْكَانَ الْبِرِّ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا مُطْلَقَةً كَانَتْ أَوْ مُقَيَّدَةً، وَأَمَّا فِي الْبَقَاءِ فَإِنْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً فَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ إمْكَانِ الْبِرِّ لِبَقَائِهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً فَلَا، وَلِذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ مِنْ بَابِ الْيَمِينِ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إنْ لَمْ أَشْرَبْ مَاءَ هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ فَكَذَا، وَلَا مَاءَ فِيهِ أَوْ كَانَ فَصُبَّتْ أَوْ أَطْلَقَ، وَلَا مَاءَ فِيهِ لَا يَحْنَثُ، وَإِنْ كَانَ فَصَبَّهُ حَنِثَ. اهـ.
وَسَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الْخَانِيَّةِ رَجُلٌ قَالَ لِأَصْحَابِهِ إنْ لَمْ أَذْهَبْ بِكُمْ اللَّيْلَةَ إلَى مَنْزِلِي فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَذَهَبَ بِهِمْ بَعْضَ الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُمْ اللُّصُوصُ، وَحَبَسُوهُمْ قَالُوا لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ يُوَافِقُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَصْلُهُ مَسْأَلَةُ الْكُوزِ اهـ.
بَقِيَ هَهُنَا مَسْأَلَتَانِ كَثُرَ وُقُوعُهُمَا الْأُولَى حَلَفَ بِالطَّلَاقِ لَيُؤَدِّيَنَّ لَهُ الْيَوْمَ كَذَا فَعَجَزَ عَنْ الْأَدَاءِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيْءٌ، وَلَا وَجَدَ مَنْ يُقْرِضُهُ الثَّانِيَةُ مَا يُكْتَبُ فِي التَّعَالِيقِ أَنَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ فَفِي حِنْثِهِ قَوْلَانِ) قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ فِي نَوْعِ السُّكْنَى لَوْ مُنِعَ مِنْ التَّحَوُّلِ، وَأَنْ يَخْرُجَ بِنَفْسِهِ، وَمَنَعُوا مَتَاعَهُ، وَأَوْثَقُوهُ، وَقَهَرُوهُ أَيَّامًا لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مُسَكَّنٌ لَا سَاكِنٌ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فَوَجَدَ الْبَابَ مُغْلَقًا بِحَيْثُ لَمْ يُمْكِنْهُ الْخُرُوجُ فَلَمْ يَخْرُجْ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ بَعْضُهُمْ قَالُوا لَا يَحْنَثُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ، وَبِهِ أَخَذَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَنْزِلِ الْيَوْمَ فَامْرَأَتُهُ كَذَا فَقُيِّدَ، وَمُنِعَ مِنْ الْخُرُوجِ حَيْثُ تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ، وَهِيَ فِي مَنْزِلِ وَالِدِهَا إنْ لَمْ تَحْضُرِي اللَّيْلَةَ مَنْزِلِي فَكَذَا فَمَنَعَهَا الْوَالِدُ عَنْ الْحُضُورِ فَإِنَّهَا تَطْلُقُ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ لَا يَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ شَرْطُ الْحِنْثِ هُوَ السُّكْنَى، وَإِنَّمَا تَكُونُ السُّكْنَى بِفِعْلِهِ إذَا كَانَ بِاخْتِيَارِهِ أَمَّا فِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ أَخْرُجْ مِنْ هَذَا الْمَنْزِلِ، وَفِي قَوْلِهِ إنْ لَمْ تَحْضُرِي اللَّيْلَةَ مَنْزِلِي شَرْطُ الْحِنْثِ عَدَمُ الْفِعْلِ، وَالْعَدَمُ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الِاخْتِيَارِ اهـ.
(قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يُشْكِلُ مَسْأَلَةُ الْعَسَسِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَقُولُ: لَا إشْكَالَ لِأَنَّهُ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ ذَهَبَ فَعَدَمُ الْحِنْثِ لِوُجُودِ الْبِرِّ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا يَأْتِي مَتْنًا فِي الْأَيْمَانِ لَا يَخْرُجُ أَوْ لَا يَذْهَبُ إلَى مَكَّةَ فَخَرَجَ يُرِيدُهَا ثُمَّ رَجَعَ يَحْنَثُ. اهـ.
قُلْت، وَسَيَأْتِي أَيْضًا هُنَاكَ عَنْ الْقُنْيَةِ مَا نَصُّهُ انْتَقَلَ الزَّوْجَانِ مِنْ الرُّسْتَاقِ إلَى قَرْيَةٍ فَلَحِقَهُ رَبُّ الدُّيُونِ فَقَالَ لَهَا اُخْرُجِي مَعِي إلَى حَيْثُ كُنَّا فِيهِ فَأَبَتْ إلَى الْجُمُعَةِ فَقَالَ إنْ لَمْ تَخْرُجِي مَعِي فَكَذَا فَإِنْ كَانَ قَدْ تَأَهَّبَ لِلْخُرُوجِ فَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ خَرَجَتْ مَعَهُ فِي الْحَالِ إلَى دَرْبِ الْقَرْيَةِ ثُمَّ رَجَعَتْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ.
وَإِنْ أَرَادَ زَوْجُهَا الْخُرُوجَ أَصْلًا. اهـ. وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ عَنْ الْخَانِيَّةِ تَوْجِيهٌ آخَرُ لِعَدَمِ الْحِنْثِ فِي مَسْأَلَةِ الْعَسَسِ (قَوْلُهُ وَكَذَا يُشْكِلُ مَسْأَلَةُ إنْ لَمْ أَعْمَلْ إلَخْ) أَقُولُ: يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ إلَخْ أَنَّ الْمَنْعَ الْحِسِّيَّ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ الْحِنْثِ فِيهِ بِخِلَافِ الْمَنْعِ بِغَيْرِ حِسِّيٍّ كَإِغْلَاقِ الْبَابِ فَفِيهِ قَوْلَانِ، وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ الْحِنْثِ أَيْضًا كَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ الذَّخِيرَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفَرْعُ مَبْنِيًّا عَلَى خِلَافِ الْمُخْتَارِ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحِسِّيِّ، وَغَيْرِهِ فَلِذَا قَالَ لَوْ مَرِضَ حَنِثَ، وَلَوْ حَبَسَهُ السُّلْطَانُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّ الْحَبْسَ مَنْعٌ حِسِّيٌّ بِخِلَافِ الْمَرَضِ تَأَمَّلْ

الصفحة 21