كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 6)
بِالرِّشْوَةِ وَأَطْلَقَهُ فَشَمِلَ مَا إذَا كَانَ الْقَاضِي الدَّافِعَ أَوْ غَيْرَهُ لِيُوَلِّيَهُ السُّلْطَانَ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ قَيَّدَ بِتَوْلِيَتِهِ الْقَضَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الرِّشْوَةَ وَقَضَى فَقَدَّمْنَا عَنْ الْخَانِيَّةِ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِيمَا ارْتَشَى، وَهَكَذَا فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ الْفَتْوَى عَلَى عَدَمِ نَفَاذِهِ، وَحُكِيَ فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ فِيهِ اخْتِلَافًا فَقِيلَ لَا يَنْفُذُ فِيمَا ارْتَشَى فِيهِ، وَيَنْفُذُ فِيمَا سِوَاهُ وَهَذَا اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ، وَقِيلَ لَا يَنْفُذُ فِيهِمَا وَقِيلَ يَنْفُذُ فِيهِمَا وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْبَزْدَوِيُّ وَرَجَّحَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِقَوْلِهِ وَهُوَ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ أَمْرِ الرِّشْوَةِ فِيمَا إذَا قَضَى بِحَقِّ إيجَابُهَا فِسْقَهُ، وَقَدْ فُرِضَ أَنَّ الْفِسْقَ لَا يُوجِبُ الْعَزْلَ فَوِلَايَتُهُ قَائِمَةٌ وَقَضَاؤُهُ بِحَقٍّ فَلِمَ لَا يَنْفُذُ وَخُصُوصُ هَذَا الْفِسْقِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَغَايَةُ مَا وُجِّهَ بِهِ أَنَّهُ إذَا ارْتَشَى عَامِلٌ لِنَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ يَعْنِي وَالْقَضَاءُ عَمَلٌ لِلَّهِ تَعَالَى اهـ.
قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا مُرَادَهُمْ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُمْ أَنَّهُ قَضَى لِنَفْسِهِ مَعْنًى، وَالْقَضَاءُ لِنَفْسِهِ بَاطِلٌ وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ، وَظَهَرَ أَنَّ خُصُوصَ هَذَا الْفِسْقِ مُؤَثِّرٌ فِي عَدَمِ النَّفَاذِ وَفِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ مَعْزِيًّا إلَى الْيَنَابِيعِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَوْ قَضَى الْقَاضِي زَمَانًا بَيْنَ النَّاسِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ مُرْتَشٍ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي الَّذِينَ يَخْتَصِمُونَ إلَيْهِ أَنْ يُبْطِلَ كُلَّ قَضَايَاهُ اهـ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ فَإِنْ ارْتَشَى وَكِيلُ الْقَاضِي أَوْ كَاتِبُهُ أَوْ بَعْضُ أَعْوَانِهِ فَإِنْ بِأَمْرِهِ وَرِضَاهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ ارْتَشَى بِنَفْسِهِ وَإِنْ بِغَيْرِ عِلْمِهِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ، وَعَلَى الْمُرْتَشِي رَدُّ مَا قَبَضَ قَضَى ثُمَّ ارْتَشَى أَوْ ارْتَشَى ثُمَّ قَضَى أَوْ ارْتَشَى وَلَدُهُ أَوْ بَعْضُ مَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْمَالَ أَوْ ابْنُهُ يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ أَوْ ابْنُهُ الْقَاضِي الْمُوَلَّى أَخَذَ الرِّشْوَةَ ثُمَّ بَعَثَهُ إلَى شَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ لِيَحْكُمَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِ لِيَسْمَعَ الْخُصُومَةَ، وَأَخَذَ أُجْرَةَ مِثْلِ الْكِتَابَةِ يَنْفُذُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرِشْوَةٍ. اهـ.
وَالرِّشْوَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَضَمِّهَا كَذَا فِي الْبِنَايَةِ وَفِي الْقَامُوسِ أَنَّهَا بِالتَّثْلِيثِ الْجُعْلُ وَارْتَشَى أَخَذَهَا وَاسْتَرْشَى طَلَبَهَا وَرَاشَاهُ حَابَاهُ وَصَانَعَهُ وَتَرَشَّاهُ لَايَنَهُ وَأَعْطَاهُ الرِّشْوَةَ اهـ.
وَفِي الْمِصْبَاحِ الرِّشْوَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ مَا يُعْطِيهِ الشَّخْصُ لِلْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ لِيَحْكُمَ لَهُ أَوْ يَحْمِلَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ وَجَمْعُهَا رُشًا مِثْلُ سِدْرَةٍ وَسِدَرٍ، وَالضَّمُّ لُغَةٌ وَجَمْعُهَا رُشًى بِالضَّمِّ أَيْضًا وَرَشَوْته رَشْوًا مِنْ بَابِ قَتَلَ أَعْطَيْته رُشْوَةً فَارْتَشَى أَيْ أَخَذَ، وَأَصْلُهَا رَشَا الْفَرْخُ إذَا مَدَّ رَأْسَهُ إلَى أُمِّهِ لِتَزُقَّهُ اهـ.
وَفِيهِ الْبِرْطِيلُ بِكَسْرِ الْبَاءِ الرِّشْوَةُ وَفِي الْمَثَلِ الْبَرَاطِيلُ تَنْصُرُ الْأَبَاطِيلَ كِنَايَةٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الْبِرْطِيلِ الَّذِي هُوَ الْمِعْوَلُ لِأَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ مَا اسْتَتَرَ وَفَتْحُ الْبَاءِ عَامِّيٌّ لِفَقْدِ فَعَلِيلٍ بِالْفَتْحِ اهـ.
وَذَكَرَ الْأَقْطَعُ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْهَدِيَّةِ وَالرِّشْوَةِ أَنَّ الرِّشْوَةَ مَا يُعْطِيهِ بِشَرْطِ أَنْ يُعَيِّنَهُ وَالْهَدِيَّةَ لَا شَرْطَ مَعَهَا اهـ.
وَفِي الْخَانِيَّةِ الرِّشْوَةُ عَلَى وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ مِنْهَا مَا هُوَ حَرَامٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا إذَا تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ بِالرِّشْوَةِ حَرُمَ عَلَى الْقَاضِي وَالْآخِذِ وَفِي صُلْحِ الْمِعْرَاجِ تَجُوزُ الْمُصَانَعَةُ لِلْأَوْصِيَاءِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى، وَبِهِ يُفْتَى ثُمَّ قَالَ مِنْ الرِّشْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى الْآخِذِ دُونَ الدَّافِعِ مَا يَأْخُذهُ الشَّاعِرُ وَفِي وَصَايَا الْخَانِيَّةِ قَالُوا بَذْلُ الْمَالِ لِاسْتِخْلَاصِ حَقٍّ لَهُ عَلَى آخَرَ رِشْوَةٌ. الثَّانِي إذَا دَفَعَ الرِّشْوَةَ إلَى الْقَاضِي لِيَقْضِيَ لَهُ حَرُمَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَضَاءُ بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمِنْهَا إذَا دَفَعَ الرِّشْوَةَ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَى الْآخِذِ غَيْرُ حَرَامٍ عَلَى الدَّافِعِ، وَكَذَا إذَا طَمِعَ فِي مَالِهِ فَرَشَاهُ بِبَعْضِ الْمَالِ وَمِنْهَا إذَا دَفَعَ الرِّشْوَةَ لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ حَلَّ لَهُ الدَّفْعُ وَلَا يَحِلُّ لِلْآخِذِ أَنْ يَأْخُذَ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحِلَّ لِلْآخِذِ يَسْتَأْجِرُ الْآخِذَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ تَصِحُّ هَذِهِ الْإِجَارَةُ، ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ إنْ شَاءَ اسْتَعْمَلَهُ فِي هَذَا الْعَمَلِ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِهِ هَذَا إذَا أَعْطَاهُ الرِّشْوَةَ أَوَّلًا لِيُسَوِّيَ أَمْرَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَإِنْ طَلَبَ مِنْهُ أَنْ يُسَوِّيَ أَمْرَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ الرِّشْوَةَ وَأَعْطَاهُ بَعْدَمَا يُسَوِّي اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَحِلُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ مُجَازَاةَ الْإِحْسَانِ فَيَحِلُّ اهـ.
وَلَمْ أَرَ قِسْمًا يَحِلُّ الْأَخْذُ فِيهِ دُونَ الدَّفْعِ، وَأَمَّا الْحَلَالُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ الْإِهْدَاءُ لِلتَّوَدُّدِ وَالْمَحَبَّةِ كَمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــQ [أَخَذَ الْقَضَاءَ بِالرِّشْوَةِ]
(قَوْلُهُ الَّذِي هُوَ الْمِعْوَلُ) قَالَ فِي الْقَامُوسِ وَالْمِعْوَلُ كَمِنْبَرٍ الْحَدِيدَةُ يُنْقَرُ بِهَا الْجِبَالُ (قَوْلُهُ وَفِي صُلْحِ الْمِعْرَاجِ إلَى قَوْلِهِ الثَّانِي) كَذَا وُجِدَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَفِي بَعْضِهَا كَتَبَ قَبْلَ قَوْلِهِ الْآتِي، وَلَيْسَ مِنْهُ مَا تَأْخُذُهُ الْمَرْأَةُ وَهُوَ مَحَلُّهُ
الصفحة 285
316