كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 6)

وَفِي الْقُنْيَةِ رَامِزًا لِعَيْنِ الْأَئِمَّةِ الْمَكِّيِّ أَشَارَ الْمُفْتِي بِرَأْسِهِ مَكَانَ قَوْلِهِ نَعَمْ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَعْمَلَ بِهِ وَرَمَزَ لِلنَّوَازِلِ عَنْ أَبِي الْقَاسِمِ مِثْلَهُ وَرَمَزَ لِظَهِيرِ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيِّ لَا لِأَنَّ إشَارَةَ النَّاطِقِ لَا تُعْتَبَرُ. اهـ.
وَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي كَالْقَاضِي فِي أَوْصَافِ الْكَمَالِ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ وَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ مَنْ لَمْ يُخَاصِمْ إلَيْهِ، وَلَا يُفْتِي أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ فِيمَا خُوصِمَ إلَيْهِ اهـ.

(قَوْلُهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَظًّا غَلِيظًا جَبَّارًا عَنِيدًا) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ وَهُوَ إيصَالُ الْحُقُوقِ إلَى أَهْلِهَا لَا يَحْصُلُ بِهِ، وَفِي الْمِصْبَاحِ رَجُلٌ فَظٌّ شَدِيدٌ غَلِيظُ الْقَلْبِ يُقَالُ مِنْهُ فَظَّ مِنْ بَابِ تَعِبَ فَظَاظَةً إذَا غَلُظَ حَتَّى يُهَابَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَغَلُظَ الرَّجُلُ اشْتَدَّ فَهُوَ غَلِيظٌ وَفِيهِ غِلْظَةٌ أَيْ غَيْرُ لَيِّنٍ وَلَا سَلِسٍ، وَأَغْلَظَ لَهُ فِي الْقَوْلِ إغْلَاظًا عَنَّفَهُ اهـ.
وَالْجَبَّارُ فِي الْخَلْقِ الْحَامِلُ غَيْرَهُ عَلَى الشَّيْءِ قَهْرًا وَغَلَبَةً وَفِي أَسْمَائِهِ تَعَالَى الَّذِي جَبَرَ خَلْقَهُ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَالْعَنِيدُ مَنْ عَانَدَ فُلَانًا عِنَادًا مِنْ بَابِ قَاتَلَ إذَا رَكِبَ الْخِلَافَ وَالْعِصْيَانَ وَعَانَدَهُ مُعَانَدَةً عَارَضَهُ وَفَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ الْمُعَانِدُ الْمُعَارِضُ بِالْخِلَافِ لَا بِالْوِفَاقِ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَارَاةً بِغَيْرِ خِلَافٍ اهـ.
وَفَسَّرَهُ فِي الْمُغْرِبِ بِمَنْ يَظْهَرُ لَهُ الْحَقُّ فَيَأْبَاهُ، وَذَكَرَهُ مِسْكِينٌ أَنَّ الْفَظَّ هُوَ الْجَافِي سَيِّئُ الْخُلُقِ وَالْغَلِيظَ قَاسِي الْقَلْبِ وَالْجَبَّارَ مَنْ جَبَرَهُ عَلَى الْأَمْرِ بِمَعْنَى أَجْبَرَهُ أَيْ لَا يُجْبِرُ غَيْرَهُ عَلَى مَا لَا يُرِيدُ وَالْعَنِيدَ الْمُعَانِدُ الْمُجَانِبُ لِلْحَقِّ الْمُعَادِي لِأَهْلِهِ

قَوْلُهُ (وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِهِ فِي عَفَافِهِ وَعَقْلِهِ وَصَلَاحِهِ وَفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَوُجُوهِ الْفِقْهِ) وَيَكُونُ شَدِيدًا مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ لَيِّنًا مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَكُلُّ مَنْ كَانَ أَعْرَفَ وَأَقْدَرَ وَأَوْجَهَ وَأَهْيَبَ وَأَصْبَرَ عَلَى مَا يُصِيبُهُ مِنْ النَّاسِ كَانَ أَوْلَى، يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَتَفَحَّصَ فِي ذَلِكَ وَيُوَلِّيَ مَنْ هُوَ أَوْلَى لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ» وَالْمَوْثُوقُ بِهِ مِنْ وَثِقْت بِهِ أَثِقُ بِكَسْرِهِمَا ثِقَةً وَوُثُوقًا ائْتَمَنْتُهُ هُوَ وَهِيَ وَهُمْ ثِقَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وَقَدْ يُجْمَعُ فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ فَيُقَالُ ثِقَاتٌ، وَالْعَفَافُ بِالْفَتْحِ مِنْ عَفَّ عَنْ الشَّيْءِ يَعِفُّ مِنْ بَابِ ضَرَبَ عِفَّةً بِالْكَسْرِ امْتَنَعَ عَنْهُ فَهُوَ عَفِيفٌ كَذَا فِي الْمِصْبَاحِ، وَفَسَّرَهُ الْكَرْمَانِيُّ شَارِحُ الْبُخَارِيِّ بِالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَخَوَارِمِ الْمُرُوءَةِ وَالْعَقْلُ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ كَمَا فِي التَّحْرِيرِ قُوَّةٌ بِهَا إدْرَاكُ الْكُلِّيَّاتِ لِلنَّفْسِ اهـ.
وَالْمُرَادُ بِالْوُثُوقِ بِهِ فِي عَقْلِهِ أَنْ يَكُونَ كَامِلَهُ فَلَا يُوَلَّى الْأَحْمَقُ وَهُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ قَالَ فِي الْمُسْتَظْرَفِ الْحُمْقُ الْخِفَّةُ غَرِيزَةٌ لَا تَنْفَعُ فِيهَا الْحِيلَةُ، وَهِيَ دَاءٌ دَوَاؤُهُ الْمَوْتُ وَفِي الْحَدِيثِ «الْأَحْمَقُ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إذْ حَرَمَهُ أَعَزَّ الْأَشْيَاءِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعَقْلُ» .
وَيُسْتَدَلُّ عَلَى صِفَتِهِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ بِطُولِ اللِّحْيَةِ؛ لِأَنَّ مَخْرَجَهَا مِنْ الدِّمَاغِ فَمَنْ أَفْرَطَ طُولَ لِحْيَتِهِ قَلَّ دِمَاغُهُ، وَمَنْ قَلَّ دِمَاغُهُ قَلَّ عَقْلُهُ وَمَنْ قَلَّ عَقْلُهُ فَهُوَ أَخَفُّ، وَأَمَّا صِفَتُهُ مِنْ حَيْثُ الْأَفْعَالُ فَتَرْكُ نَظَرِهِ فِي الْعَوَاقِبِ وَثِقَتُهُ بِمَنْ لَا يَعْرِفُهُ وَالْعُجْبُ وَكَثْرَةُ الْكَلَامِ وَسُرْعَةُ الْجَوَابِ وَكَثْرَةُ الِالْتِفَاتِ وَالْخُلُوُّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَجَلَةُ وَالْخِفَّةُ وَالسَّفَهُ وَالظُّلْمُ وَالْغَفْلَةُ وَالسَّهْوُ وَالْخُيَلَاءُ إنْ اسْتَغْنَى بَطِرَ، وَإِنْ افْتَقَرَ قَنِطَ وَإِنْ قَالَ فَحُشَ وَإِنْ سُئِلَ بَخِلَ وَإِنْ سَأَلَ أَلَحَّ وَإِنْ قَالَ لَمْ يُحْسِنْ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ لَمْ يَفْقَهْ وَإِنْ ضَحِكَ قَهْقَهَ وَإِنْ بَكَى صَرَخَ وَإِذَا اعْتَبَرْنَا هَذِهِ الْخِصَالَ وَجَدْنَاهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، فَلَا يَكَادُ يُعْرَفُ الْعَاقِلُ مِنْ الْأَحْمَقِ قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: عَالَجْتُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ فَأَبْرَأْتُهُمَا وَعَالَجْتُ الْأَحْمَقَ فَلَمْ يَبْرَأْ. اهـ.
وَأَمَّا الصَّلَاحُ فَهُوَ لُغَةً خِلَافُ الْفَسَادِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ وَذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ أَنَّهُ لَفْظٌ جَامِعٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَلِذَا وَصَفَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَقَالَ كُلُّ مَنْ لَقِيَهُ فِي السَّمَاوَاتِ مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ وَصْفٌ أَجْمَعُ مِنْهُ لِلْخَيْرِ لَوَصَفُوهُ بِهِ اهـ.
وَفِي أَوْقَافِ الْخَصَّافِ الصَّالِحُ مَنْ كَانَ مَسْتُورًا لَيْسَ بِمَهْتُوكٍ وَلَا صَاحِبَ رِيبَةٍ وَكَانَ مُسْتَقِيمَ الطَّرِيقَةِ سَلِيمَ النَّاحِيَةِ كَامِنَ الْأَذَى قَلِيلَ السُّوءِ لَيْسَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الصفحة 287