كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 6)
يُجِيبُ بِهِ حَتَّى يَعْرِفَ حُجَّتَهُ وَيَنْبَغِي السُّؤَالُ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ زَمَانِهِ فَإِنْ اخْتَلَفُوا تَحَرَّى. اهـ.
وَصَحَّحَ فِي الْحَاوِي الْقُدْسِيِّ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا كَانَ فِي جَانِبٍ وَهُمَا فِي جَانِبٍ فَالْأَصَحُّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِقُوَّةِ الْمُدْرِكِ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ لِلْمَشَايِخِ الْإِفْتَاءُ بِغَيْرِ قَوْلِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ مَعَ أَنَّهُمْ مُقَلِّدُونَ؟ قُلْتُ: قَدْ أَشْكَلَ عَلَيَّ ذَلِكَ مُدَّةً طَوِيلَةً وَلَمْ أَرَ فِيهِ جَوَابًا إلَّا مَا فَهِمْته الْآنَ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُمْ نَقَلُوا عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا حَتَّى نُقِلَ فِي السِّرَاجِيَّةِ أَنَّ هَذَا سَبَبُ مُخَالَفَةِ عِصَامٍ لِلْإِمَامِ، وَكَانَ يُفْتِي بِخِلَافِ قَوْلِهِ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ الدَّلِيلَ، وَكَانَ يَظْهَرُ لَهُ دَلِيلٌ غَيْرُهُ فَيُفْتِيَ بِهِ فَأَقُولُ: إنَّ هَذَا الشَّرْطَ كَانَ فِي زَمَانِهِمْ، أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَيُكْتَفَى بِالْحِفْظِ كَمَا فِي الْقُنْيَةِ وَغَيْرِهَا، فَيَحِلُّ الْإِفْتَاءُ بِقَوْلِ الْإِمَامِ بَلْ يَجِبُ وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ قَالَ وَعَلَى هَذَا فَمَا صَحَّحَهُ فِي الْحَاوِي مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ الشَّرْطِ، وَقَدْ صَحَّحُوا أَنَّ الْإِفْتَاءَ بِقَوْلِ الْإِمَامِ فَيَنْتِجُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا الْإِفْتَاءُ بِقَوْلِ الْإِمَامِ، وَإِنْ أَفْتَى الْمَشَايِخُ بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَفْتَوْا بِخِلَافِهِ لِفَقْدِ شَرْطِهِ فِي حَقِّهِمْ وَهُوَ الْوُقُوفُ عَلَى دَلِيلِهِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَنَا الْإِفْتَاءُ وَإِنْ لَمْ نَقِفْ عَلَى دَلِيلِهِ، وَقَدْ وَقَعَ لِلْمُحَقِّقِ ابْنِ الْهُمَامِ فِي مَوَاضِعِ الرَّدِّ عَلَى الْمَشَايِخِ فِي الْإِفْتَاءِ بِقَوْلِهِمَا بِأَنَّهُ لَا يَعْدِلُ عَنْ قَوْلِهِ إلَّا لِضَعْفِ دَلِيلِهِ، وَهُوَ قَوِيٌّ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ لِكَوْنِهِ الْأَحْوَطَ وَفِي تَكْبِيرِ التَّشْرِيقِ فِي آخِرِ وَقْتِهِ إلَى آخِرِهَا.
ذَكَرَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ لَكِنْ هُوَ أَهْلٌ لِلنَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ، وَمَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلنَّظَرِ فِيهِ فَعَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ نَقَلُوا عَنْ أَصْحَابنَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ إلَخْ) قَالَ الرَّمْلِيُّ هَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَكَلَامُهُ هُنَا مُوهِمٌ أَنَّ ذَلِكَ مَرْوِيُّ عَنْ الْمَشَايِخِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِهِ. (قَوْلُهُ بَلْ يَجِبُ الْإِفْتَاءُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ قَالَ) اعْتَرَضَهُ الْمُحَشِّي الرَّمْلِيُّ فَقَالَ هَذَا مُضَادٌّ لِقَوْلِهِ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِنَا حَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا إذْ هُوَ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْإِفْتَاءِ لِغَيْرِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى وُجُوبِهِ فَنَقُولُ مَا يَصْدُرُ مِنْ غَيْرِ الْأَهْلِ لَيْسَ بِإِفْتَاءٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا هُوَ حِكَايَةٌ عَنْ الْمُجْتَهِدِ أَنَّهُ قَائِلٌ بِكَذَا وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَلْحَظِ تَجُوزُ حِكَايَةُ قَوْلِ غَيْرِ الْإِمَامِ، فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْنَا الْإِفْتَاءُ بِقَوْلِ الْإِمَامِ وَإِنْ أَفْتَى الْمَشَايِخُ بِخِلَافِهِ وَنَحْوِهِ إنَّمَا نَحْكِي فَتْوَاهُمْ لَا غَيْرُ فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ.
قُلْتُ وَيَشْهَدُ لَهُ مَا فِي التَّتَارْخَانِيَّة قَالَ صَاحِبُ الْأَقْضِيَةِ أَبُو جَعْفَرٍ بَعْدَمَا بَيَّنَ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقْضِيَ بِالنَّاسِ إلَّا مَنْ كَانَ هَكَذَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْمُفْتِيَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَدْلًا عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ، قَالَ إلَّا أَنْ يُفْتِيَ بِشَيْءٍ قَدْ سَمِعَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ حَاكٍ مَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّاوِي فِي بَابِ الْأَحَادِيثِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّاوِي مِنْ النَّقْلِ وَالضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ، رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ بِقَوْلِنَا مَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيْنَ قُلْنَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلَ الِاجْتِهَادِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ إلَّا بِطَرِيقِ الْحِكَايَةِ فَيَحْكِي مَا يَحْفَظُ مِنْ أَقْوَالِ الْفُقَهَاءِ اهـ.
فَقَوْلُهُ فَيَحْكِي مَا يَحْفَظُ إلَخْ بِإِطْلَاقِهِ يُفِيدُ عَدَمَ وُجُوبِ الْتِزَامِ حِكَايَةِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ نَعَمْ مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ يَظْهَرُ بِنَاءً عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبَ الْإِمَامِ لَا يَحِلُّ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فِي غَيْرِ مَا عَمِلَ بِهِ، وَقَدْ عَلِمْت مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ التَّحْرِيرِ أَنَّهُ خِلَافُ الْمُخْتَارِ، وَأَنْتَ تَرَى أَصْحَابَ الْمُتُونِ الْمُعْتَمَدَةِ قَدْ يَمْشُونَ عَلَى غَيْرِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ، وَإِذَا أَفْتَى الْمَشَايِخُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِفَقْدِ الدَّلِيلِ فِي حَقِّهِمْ فَنَحْنُ نَتَّبِعُهُمْ إذْ هُمْ أَعْلَمُ، وَكَيْفَ يُقَالُ يَجِبُ عَلَيْنَا الْإِفْتَاءُ بِقَوْلِ الْإِمَامِ لِفَقْدِ الشَّرْطِ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَدْ فَقَدَ الشَّرْطَ أَيْضًا فِي حَقِّ الْمَشَايِخِ فَهَلْ تَرَاهُمْ ارْتَكَبُوا مُنْكَرًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْصَافَ الَّذِي يَقْبَلُهُ الطَّبْعُ السَّلِيمُ أَنَّ الْمُفْتِيَ فِي زَمَانِنَا يَنْقُلُ مَا اخْتَارَهُ الْمَشَايِخُ وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الشَّلَبِيِّ فِي فَتَاوِيهِ حَيْثُ قَالَ الْأَصْلُ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلِذَا تَرْجِيحُ الْمَشَايِخِ دَلِيلَهُ فِي الْأَغْلَبِ عَلَى دَلِيلِ مَنْ خَالَفَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَيُجِيبُونَ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مُخَالِفُهُ وَهَذَا أَمَارَةُ الْعَمَلِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْفَتْوَى عَلَيْهِ إذْ التَّرْجِيحُ كَصَرِيحِ التَّصْحِيحِ؛ لِأَنَّ الْمَرْجُوحَ طَائِحٌ بِمُقَابَلَتِهِ بِالرَّاجِحِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَعْدِلُ الْمُفْتِي وَلَا الْقَاضِي عَنْ قَوْلِهِ إلَّا إذَا صَرَّحَ أَحَدٌ مِنْ الْمَشَايِخِ بِأَنَّ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِقَوْلِ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةٍ لَمْ يُرَجِّحْ فِيهَا قَوْلَ غَيْرِهِ، وَرَجَّحُوا فِيهَا دَلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى دَلِيلِهِ فَإِنْ حَكَمَ فِيهَا فَحُكْمُهُ غَيْرُ مَاضٍ لَيْسَ لَهُ غَيْرُ الِانْتِقَاضِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَلَاءُ الدِّينِ الْحَصْكَفِيُّ أَيْضًا فِي صَدْرِ شَرْحِهِ عَلَى التَّنْوِيرِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا نَحْنُ فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُ مَا رَجَّحُوهُ وَمَا صَحَّحُوهُ كَمَا لَوْ أَفْتَوْا فِي حَيَاتِهِمْ فَإِنْ قُلْتَ قَدْ يَحْكُونَ أَقْوَالًا بِلَا تَرْجِيحٍ، وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِي التَّصْحِيحِ قُلْتُ: يَعْمَلُ بِمِثْلِ مَا عَمِلُوا مِنْ اعْتِبَارِ تَغَيُّرِ الْعُرْفِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ وَمَا هُوَ إلَّا رِفْقٌ، وَمَا ظَهَرَ عَلَيْهِ التَّعَامُلُ وَمَا قَوِيَ وَجْهُهُ وَلَا يَخْلُو الْوُجُودُ مِمَّنْ يُمَيِّزُ هَذَا حَقِيقَةً لَا ظَنًّا وَعَلَى مَنْ لَمْ يُمَيِّزْ أَنْ يَرْجِعَ لِمَنْ يُمَيِّزُ لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ اهـ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ لَكِنْ هُوَ أَهْلٌ لِلنَّظَرِ) الِاسْتِدْرَاكُ بِالنَّظَرِ إلَى قَوْلِهِ لَا يَعْدِلُ عَنْ قَوْلِهِ إلَّا لِضَعْفِ دَلِيلِهِ يَعْنِي أَنَّ مِثْلَ الْمُحَقِّقِ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلنَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ، وَأَمَّا مِثْلُنَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعُدُولُ عَنْ قَوْلِ الْإِمَامِ أَصْلًا.
الصفحة 293
316