كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 6)

الْإِفْتَاءُ بِقَوْلِ الْإِمَامِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَهْلِيَّةِ هُنَا أَنْ يَكُونَ عَارِفًا مُمَيِّزًا بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ وَلَا يَصِيرُ الرَّجُلُ أَهْلًا لِلْفَتْوَى مَا لَمْ يَصِرْ صَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ خَطَئِهِ؛ لِأَنَّ الصَّوَابَ مَتَى كَثُرَ فَقَدْ غَلَبَ وَلَا عِبْرَةَ بِالْمَغْلُوبِ بِمُقَابَلَةِ الْغَالِبِ فَإِنَّ أُمُورَ الشَّرْعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ كَذَا فِي الْوَلْوَالِجيَّةِ مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ، وَفِي مَنَاقِبِ الْكَرْدَرِيِّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَقَدْ سُئِلَ مَتَى يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفْتِيَ وَيَلِيَ الْقَضَاءَ؟ قَالَ: إذَا كَانَ بَصِيرًا بِالْحَدِيثِ وَالرَّأْيِ عَارِفًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَافِظًا لَهُ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَقَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ أَمَّا بَعْدَ التَّقَرُّرِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّقْلِيدُ اهـ.
وَمِنْ الْعَجَبِ مَا سَمِعْتُ مِنْ بَعْضِ حَنَفِيَّةِ عَصْرِنَا حِينَ تَكَلَّمْتُ قَدِيمًا مَعَهُ فِيهَا إنْ قَالَ لَمَّا أَفْتَى الْمَشَايِخُ بِشَيْءٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ الْإِمَامِ فَقُلْتُ إنَّهُ خَطَأٌ لِأَنَّهُمْ يُبَيِّنُونَ قَوْلَ الْإِمَامِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، ثُمَّ يَقُولُونَ الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَوْ مُحَمَّدٍ أَوْ زُفَرَ، وَسَمِعْتُ مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ الْكُلُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قُلْتُ نَعَمْ لَكِنَّ مَا خَرَجَ عَنْ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَهُوَ مَرْجُوعٌ عَنْهُ لِمَا قَرَّرُوهُ فِي الْأُصُولِ مِنْ عَدَمِ إمْكَانِ صُدُورِ قَوْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ مُجْتَهِدٍ، وَالْمَرْجُوعُ عَنْهُ لَمْ يَبْقَ قَوْلًا لَهُ كَمَا ذَكَرُوهُ.

(قَوْلُهُ وَكُرِهَ التَّقْلِيدُ لِمَنْ خَافَ الْحَيْفَ) كَيْ لَا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى مُبَاشَرَةِ الظُّلْمِ، وَهُنَا نُسْخَتَانِ التَّقْلِيدُ أَيْ النَّصْبُ مِنْ السُّلْطَانِ، وَالتَّقَلُّدُ أَيْ قَبُولُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَهِيَ الْأَوْلَى، وَالْحَيْفُ بِمَعْنَى الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ مِنْ حَافَ عَلَيْهِ يَحِيفُ إذَا جَارَ وَخَوْفُ عَدَمِ إقَامَةِ الْعَدْلِ لِعَجْزِهِ كَخَوْفِ الْجَوْرِ فَلَوْ قَالَ الْمُؤَلِّفُ لِمَنْ خَافَ الْحَيْفَ أَوْ الْعَجْزَ لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَكْفِي نَصَّ عَلَيْهِ الْقُدُورِيُّ، وَالْمُرَادُ بِالْكَرَاهَةِ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ الْوُقُوعُ فِي مَحْظُورِهِ حِينَئِذٍ، وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ مَا إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَإِنْ انْحَصَرَ صَارَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ ضَبْطُ نَفْسِهِ إلَّا إنْ كَانَ السُّلْطَانُ يُمْكِنُ أَنْ يَفْصِلَ الْخُصُومَاتِ، وَيَتَفَرَّغَ لِذَلِكَ كَذَا فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ السُّلْطَانَ فَصْلُ الْقَضَايَا وَفِي الْبَلَدِ قَوْمٌ صَالِحُونَ لَهُ أَثِمُوا كُلُّهُمْ كَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ، وَلَمْ أَرَ هَلْ يَفْسُقُ الْمُمْتَنِعُ الظَّاهِرُ نَعَمْ لِتَرْكِهِ الْفَرْضَ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ لِلْمُمْتَنِعِ فِي الْغَالِبِ تَأْوِيلًا، وَهُوَ مَانِعٌ مِنْ الْفِسْقِ، وَلَمْ أَرَ الْآنَ هَلْ يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ الْمُنْحَصِرُ فِيهِ الظَّاهِرُ جَوَازُ جَبْرِهِ عَلَى الْقَبُولِ لِاضْطِرَارِ النَّاسِ إلَيْهِ كَإِطْعَامِ الْمُضْطَرِّ وَسَائِرُ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عِنْدَ التَّعَيُّنِ، وَكَذَا جَوَازُ جَبْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَأَهِّلِينَ وَغَيْرُ الْمُتَأَهِّلِ كَالْمَعْدُومِ (قَوْلُهُ وَإِنْ أَمِنَهُ لَا) أَيْ إنْ أَمِنَ الْحَيْفَ لَمْ يُكْرَهْ التَّقْلِيدُ؛ لِأَنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ تَقَلَّدُوهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِكَوْنِ الدُّخُولِ فِيهِ عِنْدَ الْأَمْنِ رُخْصَةً فَالْأَوْلَى تَرْكُهُ أَوْ عَزِيمَةً فَالْأَوْلَى الدُّخُولُ فِيهِ لِلِاخْتِلَافِ، قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّةِ وَعَامَّةُ الْمَشَايِخِ عَلَى أَنَّ التَّقَلُّدَ رُخْصَةٌ وَالتَّرْكَ عَزِيمَةٌ، وَقَدْ دَخَلَ فِي الْقَضَاءِ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَتَحَامَى مِنْهُ قَوْمٌ صَالِحُونَ وَتَرْكُ الدُّخُولِ أَصْلَحُ دِينًا وَدُنْيَا، وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ وَإِنْ أَمِنَ أُبِيحَ رُخْصَةً وَالتَّرْكُ هُوَ الْعَزِيمَةُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَمِنَ فَالْغَالِبُ خَطَأٌ ظَنَّ مَنْ ظَنَّ مِنْ نَفْسِهِ الِاعْتِدَالَ فَيَظْهَرُ مِنْهُ خِلَافُهُ اهـ.
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ إنْ تَعَيَّنَ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ لِلْمُتَأَهِّلِ عِنْدَ وُجُودِ غَيْرِهِ لَكِنْ رُخْصَةٌ وَمَكْرُوهٌ عِنْدَ خَوْفِ الْعَجْزِ أَوْ الْحَيْفِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرَامًا عِنْدَ غَالِبِ ظَنِّهِ أَنَّهُ يَجُورُ فِي الْحُكْمِ وَمُبَاحٌ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَفِيهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ أَمَّا غَيْرُ الْأَهْلِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الدُّخُولُ فِيهِ قَطْعًا، وَلَمْ أَرَ حُكْمَ مَا إذَا خَافَ الْجَوْرَ مَعَ التَّعَيُّنِ وَمُقْتَضَى كَلَامِهِمْ فِي النِّكَاحِ أَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ الْقَبُولُ تَقْدِيمًا لِلْمُحَرِّمِ عَلَى الْمُبِيحِ، وَإِنْ كَانَ فَرْضًا وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ دُعِيَ لِلْقَضَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَبَى حَتَّى حُبِسَ وَجُلِدَ كُلَّ مَرَّةٍ ثَلَاثِينَ سَوْطًا حَتَّى قَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ: لَوْ تَقَلَّدْتَ لِمَنْفَعَةِ النَّاسِ. فَنَظَرَ إلَيْهِ شِبْهَ الْمُغْضَبِ فَقَالَ: لَوْ أُمِرْتُ أَنْ أَقْطَعَ الْبَحْرَ سِبَاحَةً لَكُنْتَ أَقْدَرَ عَلَيْهِ فَكَأَنِّي بِكَ قَاضِيًا، نَكَّسَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَيْهِ بَعْدُ، هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الدُّخُولِ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الْبَعْضِ، قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ إلَّا إنْ كَانَ السُّلْطَانُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْصِلَ الْخُصُومَاتِ إلَخْ) . قَالَ الرَّمْلِيُّ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْفَوَاكِهِ الْبَدْرِيَّةِ حَيْثُ قَالَ الْحَاكِمُ: إمَّا الْإِمَامُ أَوْ الْقَاضِي أَوْ الْمُحَكِّمُ أَمَّا الْإِمَامُ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا حُكْمُ السُّلْطَانِ الْعَادِلِ يَنْفُذُ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ. اهـ.
وَسَيَأْتِي فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَتَقْضِي الْمَرْأَةُ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ أَنَّهَا تَصْلُحُ لِلسَّلْطَنَةِ وَفِي الْخُلَاصَةِ جِنْسٌ آخَرُ، وَفِي النَّوَازِلِ السُّلْطَانُ إذَا حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ لَا يَنْفُذُ وَفِي أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ يَنْفُذُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَهَذَا أَصَحُّ وَبِهِ يُفْتَى اهـ.
ذَكَرَهُ فِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ فَظَهَرَ ضَعْفُ الرِّوَايَةِ الَّتِي نَقَلَهَا ابْنُ حَجَرٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (قَوْلُهُ الظَّاهِرُ جَوَازُ جَبْرِهِ) يُخَالِفُهُ مَا فِي الِاخْتِيَارِ حَيْثُ قَالَ وَمَنْ تَعَيَّنَ لَهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ وَلَوْ امْتَنَعَ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ اهـ.
(قَوْلُهُ وَلَمْ أَرَ حُكْمَ مَا لَوْ خَافَ الْجَوْرَ مَعَ التَّعَيُّنِ) قَدْ ذَكَرَ

الصفحة 294