كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 6)
كَلَامِ الْإِمَامِ أَنَّهُ عَرَفَ مِنْ نَفْسِهِ عَدَمَ الْقُدْرَةِ، لِذَا لَمْ يَقْبَلْ، بِهِ صَرَّحَ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَبُولُ إلَّا لِمَنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَلِذَا ضُرِبَ الْإِمَامُ أَيَّامًا وَقُيِّدَ بِضْعًا وَخَمْسِينَ، امْتَنَعَ فِي الْأَصَحِّ مِنْ الْقَبُولِ، مَاتَ عَلَى الْإِبَاءِ كَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ، حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْبَزَّازِيُّ فِي مَنَاقِبِهِ رِوَايَاتٌ الْأُولَى أَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا أَكْرَهَهُ الْمَنْصُورُ عَلَى الْقَضَاءِ وَأَبَى حَبَسَهُ وَضَرَبَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمَاتَ فِي الْحَبْسِ مَبْطُونًا.
الثَّانِيَةُ أَنَّهُ حُبِسَ مَرَّتَيْنِ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا، ثُمَّ أُخْرِجَ وَلَزِمَ بَيْتَهُ وَمُنِعَ مِنْ الْجُلُوسِ لِلنَّاسِ إلَى أَنْ مَاتَ. الثَّالِثَةُ أَنَّهُمْ لَمَّا عَجَزُوا مِنْهُ قَتَلُوهُ بِالسُّمِّ. الرَّابِعَةُ أَنَّهُ طِيفَ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ. الْخَامِسَةُ أَنَّهُ لَمَّا أَحَسَّ بِالسُّمِّ سَجَدَ فَخَرَجَتْ رُوحُهُ سَاجِدًا سَنَةَ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَمِنْ غَرِيبِ مَا وَقَعَ أَنَّهُ جِيءَ بِجِنَازَتِهِ فَازْدَحَمَ النَّاسُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى دَفْنِهِ إلَّا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَاسْتَمَرَّ النَّاسُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ عَلَى قَبْرِهِ عِشْرِينَ يَوْمًا، وَحُزِرَ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ خَمْسُونَ أَلْفًا ثُمَّ قَالَ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ الْقَضَاءَ، وَأَنَّهُ مَاتَ بِالسُّمِّ، وَقِيلَ قَبْلَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ لِأَجْلِ بَرِّ الْمَنْصُورِ فِي يَمِينِهِ ثُمَّ تُرِكَ.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ وَاقِعَةَ الْمَنْصُورِ مَعَهُ هِيَ الْفِتْنَةُ الثَّانِيَةُ لِلْإِمَامِ، وَالْأُولَى أَكْرَهُهُ ابْنُ هُبَيْرَةَ وَالِي الْكُوفَةِ عَلَى قَضَائِهَا، وَضَرَبَهُ بِهِ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى انْتَفَخَ وَجْهُهُ وَحَبَسَهُ فَرَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ بِإِطْلَاقِهِ وَتَمَامُهُ فِيهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّارِحُونَ الْمَوْلَى لِلْقُضَاةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ الْخَلِيفَةُ أَوْ السُّلْطَانُ وَعِنْدَ الْإِمَامِ الثَّانِي الْأَمِيرُ الَّذِي وَلَّاهُ السُّلْطَانُ نَاحِيَةً، وَجَعَلَ لَهُ خَرَاجَهَا وَأَطْلَقَ لَهُ التَّصَرُّفَ فِي الرَّعِيَّةِ وَمَا تَقْتَضِيهِ الْإِمَارَةُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ وَيَعْزِلَ بِخِلَافِ مَا إذَا فَوَّضَ إلَيْهِ الْأَمْوَالَ فَقَطْ، وَعَنْهُ أَيْضًا إذَا كَانَ الْقَضَاءُ مِنْ الْأَصْلِ وَمَاتَ الْقَاضِي لَيْسَ لِلْأَمِيرِ أَنْ يَنْصِبَ قَاضِيًا، وَإِنْ وَلِيَ عُشْرَهَا وَخَرَاجَهَا وَإِنْ حَكَمَ الْأَمِيرُ لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ فَإِذَا جَاءَ هَذَا الْمَوْلَى بِكِتَابِ الْخَلِيفَةِ إلَيْهِ مِنْ الْأَصْلِ لَا يَكُونُ إمْضَاءً لِقَضَائِهِ كَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ، وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يُفَوِّضَ التَّوْلِيَةَ لِلْقَضَاءِ إلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُفَوَّضُ إلَيْهِ عَبْدًا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَكَمَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ، وَيُشْتَرَطُ لِلسُّلْطَانِ الْمُوَلِّي لِلْقُضَاةِ الْبُلُوغُ لِمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ مَاتَ السُّلْطَانُ وَاتَّفَقَتْ الرَّعِيَّةُ عَلَى سَلْطَنَةِ ابْنٍ صَغِيرٍ لَهُ يَنْبَغِي أَنْ يُفَوِّضَ أُمُورَ التَّقْلِيدِ إلَى وَالٍ، وَيَعُدُّ هَذَا الْوَالِي نَفْسَهُ تَبَعًا لِابْنِ السُّلْطَان لِشَرَفِهِ، وَالسُّلْطَانُ فِي الرَّسْمِ هُوَ الِابْنُ وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْوَالِي لِعَدَمِ صِحَّةِ الْإِذْنِ وَالْجُمُعَةِ لِمَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ اهـ.
وَفِيهَا أَيْضًا السُّلْطَانُ أَوْ الْوَالِي إذَا بَلَغَ يَحْتَاجُ إلَى تَقْلِيدٍ جَدِيدٍ، وَكَذَا النَّصْرَانِيُّ إذَا اُسْتُؤْمِرَ وَفِي الْعَبْدِ رِوَايَتَانِ وَلَوْ اجْتَمَعَ أَهْلُ بَلْدَةٍ عَلَى تَوْلِيَةِ وَاحِدٍ الْقَضَاءَ لَمْ يَصِحَّ بِخِلَافِ مَا إذَا وَلَّوْا سُلْطَانًا بَعْدَ مَوْتِ سُلْطَانِهِمْ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنْهَا أَيْضًا، وَلَا بُدَّ فِي صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ مِنْ تَعْيِينِ الْقَاضِي فَلَوْ قَالَ السُّلْطَانُ وَلَّيْتُ عَالِمًا أَوْ أَحَدَ هَذَيْنِ أَوْ فُلَانًا وَفُلَانًا لَمْ يَصِحَّ أَخْذًا مِمَّا فِي الْبَزَّازِيَّةِ، لَوْ قَالَ السُّلْطَانُ لِلْوَالِي قَلِّدْ مَنْ شِئْتَ يَصِحُّ وَلَوْ قَالَ قَلِّدْ أَحَدًا لَمْ يَصِحَّ كَقَوْلِهِ لِوَكِيلِهِ وَكِّلْ مَنْ شِئْتَ يَصِحُّ وَكُلُّ أَحَدٍ لَا. اهـ.
وَالتَّوْلِيَةُ لِلْقَاضِي إمَّا بِالْمُشَافَهَةِ لِلْقَاضِي بِقَوْلِهِ وَلَّيْتُكَ قَضَاءَ بَلْدَةِ كَذَا أَوْ جَعَلْتُك قَاضِيَ الْقُضَاةِ وَنَحْوَ ذَلِكَ أَوْ بِإِرْسَالِ ثِقَةٍ إلَيْهِ بِذَلِكَ أَوْ بِكِتَابٍ، وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ كَانَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ يَقُولُ كَانَ الْفَقِيهُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ يَقُولُ تَوْلِيَةُ الْقَضَاءِ فِي دِيَارِنَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمُوَلِّيَ لَا يُوَاجِهُهُمْ بِالتَّقْلِيدِ، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ الْمَنْشُورَ وَيَكْتُبُ فِي كُلِّ فَصْلٍ عَادَةً مَنْ تَقَدَّمَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَبْطُلُ الْمُقَدَّمُ وَلَوْ مَحَاهُ بَعْدَهُ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ كَتَبَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ مَحَى الْمُبْطِلَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ اهـ.
وَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّوْلِيَةِ قَبُولُهُ لَهَا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ رَدِّهِ بِشَرْطِ بُلُوغِهِ الرَّدَّ كَالْوَكَالَةِ لِمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ السُّلْطَانُ إذَا قَلَّدَهُ الْقَضَاءَ فَرَدَّهُ مُشَافَهَةً، ثُمَّ قِيلَ لَا يَصِحُّ وَإِنْ بَعَثَ إلَيْهِ مَنْشُورًا أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ فَرَدَّهُ، ثُمَّ قَبِلَ إنْ قَبِلَ قَبْلَ بُلُوغِ الرَّدِّ إلَى السُّلْطَانِ يَصِحُّ الْقَبُولُ لَا بَعْدَ بُلُوغِ الرَّدِّ إلَيْهِ، وَكَذَا الْوَكِيلُ بِرَدِّ الْوَكَالَةِ ثُمَّ يَقْبَلُ وَكَذَا إذَا كَتَبَتْ الْمَرْأَةُ إلَى رَجُلٍ زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْكَ فَبَلَغَ الْكِتَابُ إلَيْهِ فَرَدَّهُ ثُمَّ قَبِلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQحُكْمَهُ قَرِيبًا عَنْ الْفَتْحِ حَيْثُ قَالَ وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ مَا إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ فَإِذَا انْحَصَرَ صَارَ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ ضَبْطُ نَفْسِهِ إلَخْ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ كَانَ فَرْضًا يَدْفَعُ التَّوَقُّفَ وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ تَأَمَّلْ
الصفحة 295
316