كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 6)
أَلْزَمَهُ الْحُكْمَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَلْزَمَهُ الْحَبْسَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مِسْكِينٌ أَيْ أَدَامَ حَبْسَهُ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَلْزَمَهُ بِالْحَقِّ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ تَقْرِيرُهُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ، وَالظَّاهِرُ عِنْدِي مَا قَالَهُ مِسْكِينٌ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَا يَطَّرِدُ فِي كُلِّ إقْرَارٍ؛ لِأَنَّ الْمَحْبُوسَ إذَا أَقَرَّ بِسَبَبِ عُقُوبَةٍ خَالِصَةٍ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَقَالَ إنِّي أَقْرَرْتُ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَعْزُولِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي الزِّنَا، وَلَمْ يُقِمْ الْحَدَّ عَلَيَّ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُقِيمُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ فِي مَجْلِسِ الْمَعْزُولِ بَطَلَ لَكِنْ يَسْتَقْبِلُ الْمَوْلَى الْأَمْرَ فَإِذَا أَقَرَّ حَدَّهُ ثُمَّ بَعْدَ الْحَدِّ يَتَأَنَّى وَيُنَادِي عَلَيْهِ، ثُمَّ يُطْلِقُهُ بِكَفِيلٍ بِنَفْسِهِ كَذَا فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَضَاءِ لِلْخَصَّافِ، وَقَوْلُهُ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَشْهَدَ بِأَصْلِ الْحَقِّ أَوْ بِحُكْمِ الْقَاضِي عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمَعْزُولُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لَوْ قَالَ حَبَسْتُهُ بِحَقٍّ عَلَيْهِ، كَذَا لَوْ قَالَ كُنْتُ حَكَمْتُ عَلَيْهِ لِفُلَانٍ بِكَذَا كَمَا فِي السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ وَعَلَّلَهُ فِي الْبِدَايَةِ بِأَنَّهُ كَوَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ عَلَى فِعْلٍ اهـ.
فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ مَعَ آخَرَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، رَأَيْت فِي بَعْضِ كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ مَعَ آخَرَ عَلَى حُكْمِهِ لَمْ تُقْبَلْ إلَّا أَنْ يَقُولَ إنَّ قَاضِيًا قَضَى عَلَيْهِ بِكَذَا لِفُلَانٍ اهـ.
وَقَوَاعِدُنَا تَأْبَاهُ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَتِهِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُؤَلِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إطْلَاقَهُ بَعْدَ إلْزَامِهِ لِمَا فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَضَاءِ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَعَرَفَهُ الْقَاضِي أَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِنَسَبِهِ، وَأَحْضَرَ الْمَالَ لَهُ أَطْلَقَهُ بِلَا كَفِيلٍ، وَكَذَا إذَا اخْتَارَ الْمُدَّعِي إطْلَاقَهُ وَإِنْ أُشْكِلَ عَلَى الْقَاضِي أَمْرُ الْمُدَّعِي أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَا يُطْلِقُهُ بَلْ يَتَأَنَّى، ثُمَّ يُطْلِقُهُ بِكَفِيلٍ خَوْفًا مِنْ الِاحْتِيَالِ اهـ.
قَوْلُهُ (وَإِلَّا نَادَى عَلَيْهِ) أَيْ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَمَرَ مُنَادِيًا كُلَّ يَوْمٍ فِي مَحَلَّتِهِ وَقْتَ جُلُوسِهِ مَنْ كَانَ يَطْلُبُ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ الْمَحْبُوسَ بِحَقٍّ فَلْيَحْضُرْ حَتَّى نَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَإِنْ حَضَرَ وَاحِدٌ وَادَّعَى وَهُوَ عَلَى إنْكَارِهِ ابْتَدَأَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا تَأَنَّى فِي ذَلِكَ أَيَّامًا عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْقَاضِي فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى الصَّحِيحِ اتِّفَاقًا، وَأَطْلَقَهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْقِسْمَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْوَرَثَةِ كَفِيلًا؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ وَارِثٍ آخَرَ مَوْهُومٌ وَهُنَا الْقَاضِي لَا يَحْبِسُهُ إلَّا بِحَقٍّ ظَاهِرٍ وَخِلَافُهُ مَوْهُومٌ فَإِنْ قَالَ لَا كَفِيلَ لِي وَأَبَى أَنْ يُعْطِيَ كَفِيلًا وَجَبَ أَنْ يَحْتَاطَ نَوْعًا آخَرَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فَيُنَادِي شَهْرًا فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ أَطْلَقَهُ، وَقَدْ بَحَثَ الْمُحَقِّقُ فِي فَتْحِ الْقَدِيرِ بِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ بِالنَّظَرِ إلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ حُبِسَ بِحَقٍّ يَجِبُ أَنْ لَا يُطْلِقَهُ بِقَوْلِهِ إنِّي مَظْلُومٌ حَتَّى تَمْضِيَ مُدَّةٌ يُطْلِقُ فِيهَا مُدَّعِيَ الْإِعْسَارِ كَانَ جَيِّدًا اهـ.
قُلْتُ: لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّا عَمِلْنَا بِمُقْتَضَى هَذَا الظَّاهِرِ بِالنِّدَاءِ، وَأَخَذَ الْكَفِيلُ وَلَوْ أَبْقَيْنَاهُ فِي الْحَبْسِ كَمَا ذَكَرَهُ لَسَوَّيْنَا بَيْنَ الْمُحَقَّقِ وَالظَّاهِرِ فَإِنَّ الْمُعْسِرَ تَحَقَّقْنَا ثُبُوتَ الْحَقِّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَحْبُوسِ بَعْدَ عَزْلِ الْقَاضِي، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ مَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ فِي الْمَحْبُوسِينَ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبِ قِصَاصٍ أَقَرَّ بِهِ اُقْتُصَّ مِنْهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي النَّفْسِ وَالطَّرَفِ، وَلَكِنْ لَا يُطْلِقُهُ فِي الطَّرَفِ إلَّا بِكَفِيلٍ احْتِيَاطًا وَإِنْ كَانَ قَالَ حُبِسْت بِسَبَبِ حَدِّ الزِّنَا لَا يَعْمَلُ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ السَّابِقِ، وَإِنَّمَا يَسْتَأْنِفُ الْآنَ وَإِنْ قَالَ بِسَبَبِ شُهُودٍ عَلَيَّ بِهِ لَا يَحُدُّهُ بِذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ مَعَ آخَرَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ) كَذَا فِي النَّهْرِ أَيْضًا لَكِنْ فِي فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ سُئِلَ إذَا أَخْبَرَ حَاكِمٌ حَاكِمَا بِقَضِيَّةٍ هَلْ يَكْفِي إخْبَارُهُ، وَيَسُوغُ لِلْحَاكِمِ الْعَمَلُ بِهَا أَجَابَ لَا يَكْفِي إخْبَارُهُ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ شَاهِدٍ آخَرَ اهـ.
وَمِثْلُهُ فِي فَتَاوَى الْمُؤَلِّفِ، وَيُخَالِفُهُ ظَاهِرُ مَا فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَضَاءِ وَمَا كَانَ مِنْ حُكْمٍ أَخْبَرَ بِهِ الْقَاضِي الْمَعْزُولُ، لَهُ بِذَلِكَ شُهُودٌ يُقْبَلُ مِنْهُ قَوْلُهُ كَمَا إذَا شَهِدَ شُهُودٌ عَلَى حُكْمِهِ، كَذَا مَا قَدَّمَهُ الْمُؤَلِّفُ فِي السَّادِسِ فِي طَرِيقِ ثُبُوتِهِ عَنْ السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ الْحَاكِمُ إذَا حَكَمَ بِحَقٍّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ عَزْلِهِ كُنْتُ حَكَمْت بِكَذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ اهـ.
إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ فَظَاهِرُهُ يُخَالِفُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَسَيَأْتِي قُبَيْلَ الشَّهَادَاتِ الِاخْتِلَافُ فِي قَبُولِ قَوْلِ الْقَاضِي الْمُوَلَّى مُطْلَقًا أَوْ مَعَ عَدْلٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ الْمُرَادُ بِمَا فِي فَتَاوَى قَارِئِ الْهِدَايَةِ وَالْمُؤَلِّفِ فَلَا يُخَالِفُ مَا هُنَا (قَوْلُهُ وَلَكِنْ لَا يُطْلِقُهُ فِي الطَّرَفِ احْتِيَاطٌ) ؛ لِأَنَّهُ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِإِنْسَانٍ آخَرَ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي مَالِهِ فَهُوَ يَبْذُلُ الطَّرَفَ لِيَتَخَلَّصَ، فَيَفُوتُ حَقُّ ذَلِكَ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ فَيَتَأَنَّى فِي ذَلِكَ وَيُنَادِي ثُمَّ يَأْخُذُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَيُطْلِقُهُ كَذَا فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَضَاءِ.
(قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَسْتَأْنِفُ الْآنَ) فَإِنْ أَقَرَّ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ صَحَّ وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا رَجَمَهُ، وَإِلَّا جَلَدَهُ ثُمَّ يَتَأَنَّى فِي ذَلِكَ وَيُنَادِي عَلَيْهِ، وَإِنْ حَضَرَ لَهُ خَصْمٌ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَإِلَا أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ كَذَا فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَضَاءِ لِلْخَصَّافِ (قَوْلُهُ لَا يَحُدُّهُ بِذَلِكَ) ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَعْزُولِ لَا يُعْتَبَرُ عِنْد الثَّانِي كَذَا فِي شَرْحِ أَدَبِ الْقَضَاءِ وَفِيهِ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي الثَّانِي إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تَكُونُ حُجَّةً بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ، وَلَا يُطْلِقُهُ لِتَوَهُّمِ الْحِيلَةِ لَكِنْ يُنَادِي عَلَيْهِ، وَيَتَأَنَّى فِي أَمْرِهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَيُطْلِقُهُ
الصفحة 301
316