كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 8)

اعْلَمْ أَنَّ اسْتِئْجَارَ الدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: الْأَوَّلُ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْعَقْدِ اسْتَأْجَرْتهَا لِلرُّكُوبِ أَوْ لِلُّبْسِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي أَنْ يَزِيدَ فِي قَوْلِهِ عَلَى أَنْ أُرْكِبَ مَنْ أَشَاءَ وَأُلْبِسَ مَنْ أَشَاءُ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ عَلَى أَنْ أَرْكَبَ أَنَا أَوْ فُلَانٌ أَوْ أَلْبَسَ أَنَا أَوْ فُلَانٌ، فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ وَاللُّبْسَ مُخْتَلِفَانِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَإِنْ أَرْكَبَ شَخْصًا وَمَضَتْ الْمُدَّةُ تَنْقَلِبُ صَحِيحَةً وَيَجِبُ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ وَهُوَ الْجَهَالَةُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ هَلَكَتْ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى وَيَتَعَيَّنُ أَوَّلُ مَنْ يَرْكَبُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَأْجِرَ أَوْ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ مِنْ الْأَصْلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً وَفِي الثَّالِثِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهُ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ مُفِيدٌ فَإِذَا تَعَدَّى صَارَ ضَامِنًا وَحُكْمُ الْحَمْلِ حُكْمُ الرُّكُوبِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَفِي قَاضِي خان اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ دِرْعًا لِتَلْبَسَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إنْ كَانَ الثَّوْبُ بَدَلَهُ كَانَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَهُ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي وَإِنْ كَانَتْ صِيَانَةً تَلْبَسُهُ فِي النَّهَارِ وَفِي أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَهُ كُلَّ اللَّيْلِ فَإِنْ لَبِسَتْهُ كُلَّ اللَّيْلِ وَبَاتَتْ فِيهِ حَتَّى جَاءَ النَّهَارُ بَرِئَتْ مِنْ الضَّمَانِ إنْ لَمْ يَتَخَرَّقْ اهـ.
وَفِي الْبَقَّالِيِّ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا فَحَمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا لَا يَضْمَنُ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَطْحَنَ عَلَيْهَا وَمَا بَيَّنَ مِقْدَارَ مَا يَعْمَلُ بِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا مِقْدَارَ مَا تَحْمِلُ، وَفِي الْمُحِيطِ يَنْعَقِدُ فَاسِدًا فَإِذَا عَمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارَ مَا يَحْمِلُ يَعُودُ جَائِزًا وَيَجِبُ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا فَظَهَرَ أَنَّ الْمَشِيئَةَ فِي قَوْلِهِ مَا شَاءَ مُقَيَّدَةٌ بِقَدْرِ حَمْلِهَا وَفِي الْمُحِيطِ اسْتَأْجَرَ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ لِيَذْهَبَ إلَى مَكَانِ كَذَا فَلَمْ يَذْهَبْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَلَبِسَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَكُونُ مُخَالِفًا وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ عِنْدِي أَنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ وَيَجِبُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ هَذَا خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ وَلَيْسَ هَذَا كَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَذْهَبَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَرَكِبَهَا فِي الْمِصْرِ فِي حَوَائِجِهِ فَهُوَ مُخَالِفٌ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ لَا يَجُوزُ إيجَارُهَا إلَّا إذَا بَيَّنَ الْمَكَانَ وَفِي الثَّوْبِ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْمَكَانِ اهـ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ وَإِذَا تَكَارَى قَوْمٌ مُشَاةٌ إبِلًا عَلَى أَنَّ الْمُكَارِيَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا مَنْ مَرِضَ مِنْهُمْ أَوْ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ فَهَذَا فَاسِدٌ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ قَيَّدَ بِرَاكِبٍ وَلَابِسٍ فَخَالَفَ ضَمِنَ) يَعْنِي إذَا عَطِبَتْ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ مُقَيَّدٌ فَتَعَيَّنَ فَإِذَا خَالَفَ صَارَ ضَامِنًا بِالتَّعَدِّي؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَكَذَا الْأُجْرَةُ عَلَيْهِ إنْ سَلَّمَ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ حَانُوتًا وَأَقْعَدَ فِيهِ قَصَّارًا أَوْ حَدَّادًا حَيْثُ يَجِبُ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَلَّمَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَاسْتُفِيدَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ إذَا قَيَّدَ لَيْسَ لَهُ الْإِجَارَةُ وَالْإِعَارَةُ كَمَا إذَا عَمَّمَ وَلَيْسَ لَهُ الْإِيدَاعُ فِي الْأَوَّلِ وَلَا ضَرُورَةَ دُونَ الثَّانِي، كَذَا فِي فُصُولِ الْعِمَادِيِّ كَمَا إذَا عَمِيَ الْحِمَارُ فِي الطَّرِيقِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَمِثْلُهُ مَا يَخْتَلِفُ بِالْمُسْتَعْمِلِ) يَعْنِي يَضْمَنُ مِثْلَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا وَخَالَفَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعْنَى قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَفِيمَا لَا يَخْتَلِفُ بَطَلَ تَقْيِيدُهُ كَمَا لَوْ شَرَطَ سُكْنَى وَاحِدٍ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ) يَعْنِي فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ كَالدُّورِ لِلسُّكْنَى لَا يُعْتَبَرُ تَقْيِيدُهُ حَتَّى إذَا شَرَطَ سُكْنَى وَاحِدٍ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ لَا يُفِيدُ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ وَمَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ كَالْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ وَالطَّحَّانِ خَارِجٌ كَمَا مَرَّ وَالْفُسْطَاطُ كَالدَّارِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ اللُّبْسِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي نَصْبِهِ وَضَرْبِ أَوْتَادِهِ وَاخْتِيَارِ مَكَانِهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَإِنْ سَمَّى نَوْعًا، وَقَدْرًا كَكُرِّ بُرٍّ لَهُ حَمْلُ مِثْلِهِ وَأَخَفَّ لَا أَضَرَّ كَالْمِلْحِ) يَعْنِي لَوْ سَمَّى النَّوْعَ وَالْقَدْرَ فَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى الدَّابَّةِ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَأَخَفُّ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ لِيَحْمِلَ هَذِهِ الْحِنْطَةَ وَهِيَ قَدْرٌ مَعْلُومٌ فَحَمَلَ مِثْلَ قَدْرِهَا وَمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ كَالشَّعِيرِ وَالسِّمْسِمِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ كَالْمِلْحِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ يَكُونُ رِضًا بِمَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ دُونَهُ عَادَةً لَا بِمَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إجَازَةِ كُرِّ حِنْطَةٍ وَمَنْعِ كُرِّ شَعِيرٍ، بَلْ الشَّعِيرُ أَخَفُّ مِنْهُ فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ حَتَّى لَوْ سَمَّى قَدْرًا مِنْ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّعِيرِ مِثْلَهُ وَزْنًا ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الشَّعِيرَ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مَا تَأْخُذُ الْحِنْطَةُ فَصَارَ كَمَا لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا قِرْبَةَ مَاءٍ أَوْ حَطَبٍ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ، وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِهِ لَا يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا.
وَقَالَ وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الشَّعِيرِ عِنْدَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْوَزْنِ أَخَفُّ مِنْ ضَرَرِ الْحِنْطَةِ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا تَأْخُذُ الْحِنْطَةُ فَكَانَ أَخَفَّ عَلَيْهَا بِالِانْبِسَاطِ وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ، وَلَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِهِ حَدِيدًا أَوْ مِلْحًا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ فِي مَكَان وَاحِدٍ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ فَيَضُرُّ بِهَا أَكْثَرَ، وَكَذَا لَا يَضْمَنُ إذَا حَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِهَا قُطْنًا؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ وَفِيهِ حَرَارَةٌ

الصفحة 14