كتاب البحر الرائق شرح كنز الدقائق ومنحة الخالق وتكملة الطوري (اسم الجزء: 8)

شَرْطَ الْوَاقِفِ وَيُؤَجَّرُ بِخِلَافِهِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أَوْ بِالتَّسْمِيَةِ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى صَبْغِ الثَّوْبِ وَخِيَاطَتِهِ) يَعْنِي الْمَنْفَعَةَ تُعْلَمُ بِالتَّسْمِيَةِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الصَّبْغِ وَالْخِيَاطَةِ كَمَا ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ، وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ الدَّابَّةِ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا بَيَّنَ الْمَصْبُوغَ وَالصَّبْغَ، وَقَدْرَ مَا يَصْبُغُ بِهِ وَجِنْسَهُ وَجِنْسَ الْخِيَاطَةِ وَالْمَخِيطِ وَمَنْ يَرْكَبُ عَلَى الدَّابَّةِ وَالْقَدْرَ الْمَحْمُولَ عَلَيْهَا وَالْمَسَافَةَ صَارَتْ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً بِلَا شُبْهَةٍ فَصَحَّ الْعَقْدُ وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْعَمَلِ كَالْقِصَارَةِ وَنَحْوِهِ وَبِهِ يُعْلَمُ فَسَادُ إجَارَةِ دَوَابِّ الْعَلَّافِينَ فِي دِيَارِنَا لِعَدَمِ بَيَانِ الْوَقْتِ وَالْمَوْضِعِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أَوْ بِالْإِشَارَةِ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى نَقْلِ هَذَا الطَّعَامِ إلَى كَذَا) يَعْنِي تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً بِالْإِشَارَةِ كَمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهُ إذَا عُلِمَ الْمَنْقُولُ وَالْمَكَانُ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ صَارَتْ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً، وَهَذَا النَّوْعُ قَرِيبٌ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ.

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَالْأُجْرَةُ لَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ، بَلْ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ بِشَرْطِهِ أَوْ بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ بِالتَّمَكُّنِ مِنْهُ) يَعْنِي الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِالتَّعْجِيلِ أَوْ بِشَرْطِهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهِيَ الْمَنْفَعَةُ أَوْ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فِي الْمُدَّةِ اهـ. كَلَامُ الشَّارِحِ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ إطْلَاقِ الْمَاتِنِ وَالشَّارِحِ أَنَّ الْأُجْرَةَ تُمْلَكُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْمُدَّةِ، سَوَاءٌ اسْتَعْمَلَهَا فِي الْمُدَّةِ أَوْ لَا وَيُخَالِفُهُ مَا فِي الْخُلَاصَةِ حَيْثُ قَالَ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَانِ كَذَا مَثَلًا فَحَبَسَهَا فِي بَيْتِهِ لَمْ تَجِبْ الْأُجْرَةُ. اهـ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ إطْلَاقِ الْمُؤَلِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْأُجْرَةَ تَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ أَوْ بَعْدَ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَسَوَاءٌ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجَهُ، وَيُخَالِفُهُ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَيْثُ قَالَ: وَلَوْ ذَكَرَ مُدَّةً وَمَسَافَةً فَرَكِبَهَا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ تَجِبْ الْأُجْرَةُ. اهـ. وَفِي الْعَتَّابِيَّةِ هَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا خَارِجَ الْمِصْرِ، وَلَوْ كَانَ لِيَرْكَبَهَا فِي الْمِصْرِ وَحَبَسَهَا فِي بَيْتِهِ تَجِبُ الْأُجْرَةُ، قَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَالتَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي غَيْرِ الْمُدَّةِ الْمُضَافِ إلَيْهَا لَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ، وَكَذَا التَّمَكُّنُ فِي غَيْرِ الْمَكَانِ لَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الْأُجْرَةِ، فَلَوْ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْ بِالتَّمَكُّنِ مِنْهُ فِي الْمُدَّةِ وَاسْتَوْفَى لَكَانَ أَوْلَى، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيَجِبُ تَسْلِيمُهَا عِنْدَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ؛ لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ بِتَقَابُلِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمِلْكِ وَالتَّسْلِيمِ وَأَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَعْدُومِ، وَلَوْ مَلَكَ الْأُجْرَةَ لِمِلْكِهَا مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ قَضِيَّةِ الْمُعَاوَضَةِ فَتَأَخُّرُ الْمِلْكِ فِيهِ ضَرُورَةُ جَوَازِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ عِوَضٌ لَا يَبْقَى زَمَانَيْنِ وَالْمَنْفَعَةُ إنَّمَا جُعِلَتْ مَوْجُودَةً فِي حَقِّ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَمَا ثَبَتَ لِلضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، لَا يُقَالُ لَوْ لَمْ يَجْعَلْ الْمَعْدُومَ مَوْجُودًا فِي حَقِّ الْعَقْدِ وَالْأُجْرَةِ لَمَا جَازَ الْإِيجَارُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا جَازَ الْإِيجَارُ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَصِرْ دَيْنًا فِي الْمُدَّةِ وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الِارْتِبَاطِ، وَعِنْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ وَهُوَ زَمَانُ حُدُوثِهَا تَصِيرُ هِيَ مَقْبُوضَةً فَلَا يَكُونُ دَيْنًا بِدَيْنٍ أَصْلًا، وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ يَنْعَقِدُ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ لَمَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ أَصْلًا كَمَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ بِهِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ الْمَعْدُومُ كَالْمُسْتَوْفَى لَجَازَ ذَلِكَ فِي السَّلَمِ أَيْضًا، وَإِذَا عَجَّلَهَا أَوْ اشْتَرَطَ تَعْجِيلَهَا فَقَدْ الْتَزَمَهُ بِنَفْسِهِ وَأَبْطَلَ الْمُسَاوَاةَ الَّتِي اقْتَضَاهَا الْعَقْدُ.
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَهُ مَطَالِبُ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَهُ مُخَالِفًا إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ إجَارَةً أَوْ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُعَاوَضَةً، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَيْسَ شَرْطَ التَّعْجِيلِ بِاعْتِبَارِهِ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَإِنَّ تَعْجِيلَ الْبَدَلِ وَاشْتِرَاطَهُ لَا يُخَالِفُ مِنْ حَيْثُ الْمُعَاوَضَةُ، وَفِي الْمُحِيطِ وَحِينَئِذٍ فَلِلْمُؤَجِّرِ حَبْسُ الْمَنَافِعِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأُجْرَةَ وَيُطَالِبَهُ بِهَا وَيَحْبِسَهُ وَحَقُّهُ الْفَسْخُ أَنَّ الْحَاكِمَ يُعَجِّلُ اهـ.
وَلَوْ أَجَّرَ إجَارَةً مُضَافَةً وَاشْتَرَطَ تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ حَيْثُ يَكُونُ الشَّرْطُ بَاطِلًا وَلَا يَلْزَمُ لِلْحَالِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْأُجْرَةِ لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، بَلْ بِالتَّصْرِيحِ بِالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْمَعْنَى بِالشَّرْطِ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا لَا يَجِبُ لِاقْتِضَاءِ الْعَقْدِ الْمُسَاوَاةَ، وَقَدْ بَطَلَ بِالتَّصْرِيحِ لَا يُقَالُ يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْأُجْرَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْهَا لَمَا صَحَّ، وَكَذَا يَصِحُّ الِارْتِهَانُ وَالْكَفَالَةُ بِهَا، وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِسُكْنَى دَارِهِ سَنَةً وَسَلَّمَ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا، وَلَوْ لَمْ تَمْلِكْ الْمَنْفَعَةَ لَمَنَعَتْ نَفْسَهَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الثَّانِي لِعَدَمِ وُجُوبِهِ كَالْمُضَافِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي

الصفحة 5