كتاب المصطلحات الحديثية بين الاتفاق والافتراق
والمتأمل لصنيع الترمذي في جامعه يجده لم يَقصُر تحسينه للأحاديث التي رُويت من غير وجه، بل أكثر ما اُنتقِد عليه - في تعريفه- تحسينه لأحاديث جاءت منفردة، وجمعه بين وصفيّ الحُسن والغرابة للحديث الواحد. (¬1)
وقد تعددت أجوبة العلماء في توجيه ذلك، ومنها:
- ما أجاب به شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الحديث قد يكون غريباً في أصله ثم تتعدد الطرق عن التابعي، فيجمع بين غرابة الأصل، والحُسن لتعدد طرقه بعد ذلك، فقال:
"وأما الحسن في اصطلاح الترمذي فهو: ما رُوِي من وجهين، وليس في رواته من هو متهم بالكذب ولا هو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة. فهذه الشروط هي التي شرطها الترمذي في الحسن، لكن من الناس من يقول: قد سُمِّى حسنا ما ليس كذلك، مثل حديث يقول فيه: حسن غريب؛ فإنه لم يرو إلا من وجه واحد وقد سماه حسنا، وقد أجيب عنه بأنه قد يكون غريبا. لم يرو إلا عن تابعي واحد، لكن رُوِي عنه من وجهين فصار حسنا لتعدد طرقه عن ذلك الشخص وهو في أصله غريب." (¬2)
- وأجاب ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي بأن المراد أن يُروى معناه من غير وجه، لا نفس اللفظ، فقال: "لا يشكل قوله: "حديث حسن غريب"، ولا قوله: "صحيح حسن غريب
لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، لأن مراده أن هذا اللفظ لا يُعرف إلا من هذا الوجه، لكن لمعناه شواهد من غير هذا الوجه، وإن كانت شواهد بغير لفظه." (¬3)
¬_________
(¬1) فممن أشار إلى هذا الإشكال ابن دقيق العيد، فقال: "وهذا يشكل عليه ما يقال فيه أنه حسن مع أنه ليس له مخرج إلا من وجه واحد". ابن دقيق العيد، الاقتراح، 8، وكذلك ابن جماعة، حيث قال في تعقّبه للقسم الأول من الحسن-والذي اشترط فيه ابن الصلاح مجيئه من طريق آخر-: "ويرد على الأول الفرد من الحسن فإنه لم يرو من وجه آخر" ابن جماعة، المنهل، 36.
(¬2) ابن تيمية، الفتاوى، 18/ 39.
(¬3) ثم أتبع كلامه بذكر مثال على ذلك فقال: "وهذا كما في حديث "الأعمال بالبينات" فإن شواهده كثيرة جداً في السنة، مما يدل على أن المقاصد والنيات هي المؤثرة في الأعمال، وأن الجزاء يقع على العمل بحسب ما نوي به، وإن لم يكن لفظ حديث عمر مروياً من غير حديثه من وجه يصح." ابن رجب، علل الترمذي، 1/ 386، وقال الشيخ أحمد شاكر في حاشية كتاب الباعث الحثيث: "الذي يبدو لي في الجواب عن هذا: أن الترمذي لا يريد بقوله في بيان الحسن (ويُروى من غير وجه نحو ذاك) أن نفس الحديث عن الصحابي يُروى من طرق أخرى؛ لأنه لا يكون حينئذ غريبا، وإنما يريد أن لا يكون معناه غريبا: بأن يروى المعنى عن صحابي آخر، أو يعتضد بعمومات أحاديث أخر، أو بنحو ذلك، مما يخرج معناه عن أن يكون شاذا غريبا. فنأمل". شاكر، الباعث الحثيث، 39 - 40.
الصفحة 190
626