كتاب البداية والنهاية ط هجر (اسم الجزء: 5)

لِحْيَتُهُ ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ، أَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ خَيْرٌ أَمْ هُوَ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: فَوَاللَّهِ لَسَاعَةٌ مِنْ أَبِي بَكْرٍ، خَيْرٌ مِنْ مَلْءِ الْأَرْضِ مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، ذَاكَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، وَهَذَا رَجُلٌ أَعْلَنَ إِيمَانَهُ. ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
فَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ لِلصِّدِّيقِ حَيْثُ هُوَ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَرِيشِ، كَمَا كَانَ مَعَهُ فِي الْغَارِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ الِابْتِهَالَ وَالتَّضَرُّعَ وَالدُّعَاءَ، وَيَقُولُ: فِيمَا يَدْعُو بِهِ: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ، لَا تُعْبَدُ بَعْدَهَا فِي الْأَرْضِ " وَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَنْجِزَ لِي مَا وَعَدْتِنِي، اللَّهُمَّ نَصْرَكَ ". وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى سَقَطَ الرِّدَاءُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَلْتَزِمُهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَيُسَوِّي عَلَيْهِ رِدَاءَهُ، وَيَقُولُ مُشْفِقًا عَلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ الِابْتِهَالِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَعْضَ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ.
هَكَذَا حَكَى السُّهَيْلِيُّ عَنْ قَاسِمِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ الصِّدِّيقَ إِنَّمَا قَالَ: بَعْضَ مُنَاشَدَتِكَ رَبَّكَ، مِنْ بَابِ الْإِشْفَاقِ، لِمَا رَأَى مِنْ نَصَبِهِ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ، حَتَّى سَقَطَ الرِّدَاءُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَقَالَ: بَعْضَ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْ لِمَ تُتْعِبُ نَفْسَكَ هَذَا التَّعَبَ، وَاللَّهُ قَدْ وَعَدَكَ بِالنَّصْرِ. وَكَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، رَقِيقَ الْقَلْبِ، شَدِيدَ الْإِشْفَاقِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

الصفحة 93