كتاب البداية والنهاية ط هجر (اسم الجزء: 6)

فَقَالَتْ: لَا هِجْرَةَ الْيَوْمَ، كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَخَافَةَ أَنْ يُفْتَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ، فَالْمُؤْمِنُ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَيْثُ يَشَاءُ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ.
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْهِجْرَةَ - إِمَّا الْكَامِلَةَ أَوْ مُطْلَقًا - قَدِ انْقَطَعَتْ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، لِأَنَّ النَّاسَ دَخَلُوا فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَظَهَرَ الْإِسْلَامُ وَثَبَتَتْ أَرْكَانُهُ وَدَعَائِمُهُ، فَلَمْ تَبْقَ هِجْرَةٌ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَعْرِضَ حَالٌ يَقْتَضِي الْهِجْرَةَ بِسَبَبِ مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِظْهَارِ الدِّينِ عِنْدَهُمْ، فَتَجِبُ الْهِجْرَةُ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْهِجْرَةَ لَيْسَتْ كَالْهِجْرَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ، كَمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْجِهَادِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَشْرُوعٌ وَمُرَغَّبٌ فِيهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنْ لَيْسَ كَالْإِنْفَاقِ وَلَا الْجِهَادِ قَبْلَ الْفَتْحِ، فَتْحِ مَكَّةَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] الْآيَةَ (الْحَدِيدِ: 10) .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1]

الصفحة 622