كتاب البرهان في وجوه البيان

[والعقل] ينقسم قسمين: موهوب ومكسوب، فالموهوب ما جعله الله في جبلة خلقه، وهو الذي ذكره في كتابه حيث يقول: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقد فضل الله - عز وجل - في هذه الموهبة بعض خلقه على بعض على مقدار علمه فيهم، كما فضل بعضهم على بعض في سائر أخلاقهم وأفعالهم، وقال: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} وإنما فعل الله ذلك للمصلحة لهم، ونحن نبين وجه الصلاح في ذلك فيما يستأنف من كتابنا هذا إذا صرنا إليه.
والمكسوب ما أفاده الإنسان بالتجربة والعمر، والأدب والنظر، وهو الذي ندب الله - عز وجل - إليه فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وجعل من أعطاه العقل الغريزي فأهمله، وترك شحذه بالأدب والتفكير والتمييز والتدبر، كالأنعام، وعرفنا أن مصيرهم [عز من قائل] فقال: {وَلَقَدْ ذَرَانَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا

الصفحة 53