حجة عقله، وكان ذلك أبلغ من إخباره به، وهذا كما يقول القائل: ومن أفضل منِّي؟ فيقول من يصدقه ويعرف صدقه في ذلك: لا أحد أفضل منك. فكان هذا أبلغ من أن يقول: أنا أفضل الناس. ومضى مثل هذا فيما تقدم.
والحديث ما يُحَدِّث به المحدث، والحديث الجديد من الأشياء (¬1) الذي لم يكن فحدث، وبه سمي حديثًا لأنه ذكرٌ لم يكن ثم حدث، وما يخبر الله تعالى به يجوز أن يسمى حديثًا على معنى حدوثه بالإخبار عنه، فقوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} كقولك: ومن أصدق من الله إخبارًا أو خبرًا وقلًا وقيلًا، كلها متقارب.
ومن هذا المعنى سمي القرآن حديثًا في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر: 23] لحدوث تلاوته فيما بيننا، فأما نفس كلام الله تعالى فقديم، لم يزل الباري تعالى ذكره متكلمًا.
88 - قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ}.
قال ابن عباس وأكثر المفسرين: نزلت في قوم قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلمين، فأقاموا بالمدينة ما شاء الله، ثم قالوا: يا رسول الله إنا اجتوينا المدينة، فأذن لنا حتى نتبدا (¬2). فإذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة، حتى لحقوا بالمشركين، فتكلم المؤمنون فيهم، فقال بعضهم: لو كانوا مسلمين مثلنا لأقاموا معنا وصبروا كما نصبر، وقال قوم: هم مسلمون حتى نعلم أنهم بدَّلوا. فبين الله تعالى نفاقهم في هذه الآية. وهذا معنى قول الحسن ومجاهد (¬3).
¬__________
(¬1) "تهذيب اللغة" 1/ 756، وانظر: "الصحاح" 1/ 278 (حدث).
(¬2) أي: نلحق بالبادية، انظر: "معاني الزجاج" 2/ 87.
(¬3) عن مجاهد بمعناه في "تفسيره" 1/ 168، وأخرجه الطبري 6/ 193. =