لمّا ذَكَرَ (الَّتي) بلفظ (ما) ذَكَرَ الكناية؛ لأن (ما) لا تبين فيه تذكير ولا تأنيث، فكأنه مذكر، والتقدير: نُسقيكم مِن التي في بطونها لبن، {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا}، وأضمر ذِكرَ اللبن لعلم المخاطب بذلك، ولمجيء (¬1) ذِكرِ اللبن فيما بعده.
وقوله تعالى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا}، الفَرْثُ: سِرْجين الكرش (¬2)، قال ابن عباس: يريد العلف الذي يكون في الكرش، وروى الكلبي عن أبي صالح عنه أنه قال: إذا استقر العَلَفُ في الكرش صار أسفله فَرْثًا وأعلاه دمًا وأوسطه لبنًا، فيجري الدمُ في العروق واللبنُ في الضَّرع ويبقى الفَرْثُ كما هو (¬3)، فذلك قوله: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا}: لا يَشُوبُه الدم ولا الفرث، {سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}: جائزًا في حلوقهم لذيذًا هنيئًا، يقال: ساغَ الشَّرَابُ في الحلق وأَسَاغَهُ صاحِبُه (¬4)، ومنه قوله: {وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:
¬__________
(¬1) في جميع النسخ: (والمجيء)، ويستقيم الكلام بالمثبت.
(¬2) يقال: سرجين بالجيم، وسرقين بالقاف، ويسمى فرْثًا ما دام أنه بالكرش، فإذا خرج لا يسمى فرثًا، انظر: (فرث) في "العين" 8/ 220، و"تهذيب اللغة" 3/ 2757، و"المحيط في اللغة" 10/ 138، و"مجمل اللغة" 2/ 719، و"اللسان" 6/ 3369.
(¬3) ورد في "تفسير السمرقندي" 2/ 240، والثعلبي 2/ 159 أ، بنحوه، (وهذه أوهى الطرق إلى ابن عباس، وانظر: "تفسير البغوي" 5/ 28، وابن الجوزي 4/ 464، والفخر الرازي 20/ 64، و"تفسير القرطبي" 10/ 125، و"تفسير البيضاوي" 1/ 279، والخازن 3/ 123، وأبي حيان 5/ 509، وهذا التفسير مردود لضعف الأثر، وزاد الفخر الرازي تضعيفه لمخالفته للحس، فقال: وقد دللنا على أن هذا القول على خلاف الحس والتجربة، ولأن الدم لو كان يتولد في أعلى المعدة والكرش، كان يجب إذا قاء أن يقيء الدم، وذلك باطل قطعًا، ثم بيَّن كيفية توَلُّد اللبن حسيًّا. الفخر الرازي 20/ 65
(¬4) انظر: (سوغ) في "جمهرة اللغة" 2/ 846، و"تهذيب اللغة" 2/ 1597،و"المحيط =