كتاب مسألة فيما إذا كان في العبد محبة لما هو خير وحق ومحمود في نفسه
وكذلك يلتذ ويفرح ويتنعَّم بمعرفة نفسه للأشياء التي تُعرف بالباطن، ويلتذ أيضًا بشهود باطنه وإحساسه، كما يلتذ بشهود ظاهره وإحساسه، وكذلك يلتذ بما تعقله نفسه من الأمور الكلية التي تعقلها، وكذلك في أفعاله وحركاته، كما يلتذ بأكله وشربه ونكاحه، وكما يلتذ برحمته وإحسانه إلى أهل الحاجات من أقاربه وغير أقاربه، ويلتذ بالجود والإعطاء، ويلتذ بالعفو عن المسيء إليه وترك معاقبة المسيء، كما يُذكر عن المأمون أنه قال: لقد حُبِّبَ إليَّ العفو حتى إني أخاف ألا أثاب عليه.
فهذه مكارم الأخلاق التي تكون في بني آدم، كما كانت تكون في أهل البادية، فهذا الحس وهذه الحركة الإرادية يتنعَّم به الحي وينتفع به ويلتذ في الحال.
ولا يُقال: إن فعل ذلك لغير غرض ولا لجلب منفعة أو دفع مضرة، بل فيه جلب منفعة ودفع مضرة في نفسه، كما في نفس الآكل والشارب يستجلب به منفعة الشبع، ويستدفع به مضرة الجوع، فهكذا سائر هذه الأمور يدفع بها عن نفسه مضرات، ويستجلب لها بها لذات.
ولهذا يُقال: اشتفت نفسه، وشفيت صدري، فيجد شفاءً في صدره، كما يجد شفاءً في جسمه بزوال المرض وحصول العافية.
وهذه أمور محسوسة بالباطن والظاهر، وهي التي أدرك حسنها من قال: إن العقل يُقبِّح ويُحسِّن ومن قال: إن العلم بحسنها لِصفة قائمةٍ بها معقولةٍ: إما بالبديهة وإما بالنظر، أو معلومة بالشرع.
ولقد صدق في قوله: إن حسنها وقبحها لمعنى قام بها، وصدق أن ذلك قد يُدْرَك بالعقل وقد يدرك بالشرع.
وقد غلط الأول في نفيه أن يكون ذلك لما فيه من جلب منفعة إلى العبد ودفع مضرة راجعة إلى نفسه، وإن كان ذلك في الدار الآخرة أيضًا، فإن ذلك أمر محسوس.
والثاني غلط حيث اعتقد أن ذلك ليس لصفة في الفعل، وأن الحُسن والقُبح ليس إلا مجرد
الصفحة 446
639