كتاب الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق (اسم الجزء: 8)

خاطبوهم عند الموت بقولهم: اليوم تجزون عذاب الهون. وهذا وإن كان قبل الدفن فهو من جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة (¬1).
... وقال تعالى: "فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بال فرعون سوء العذاب* النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (¬2).
¬_________
(¬1) انظر ص 151 ج 3 فتح الباري. وقال الحافظ: وإنما أضيف العذاب إلى القبر لكون معظمه يقع فيه ولكون الغالب على الموتى أن يقبروا وإلا فالكافر ومن شاء الله تعذيبه من العصاة يعذب بعد موته ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق إلا من شاء الله.
(¬2) سورة غافر: آية 45 و 46 "وحاق بآل فرعون" أي أحاط ونزل بفرعون وقومه "سوء العذاب" وهو الغرق في الدنيا والعذاب بنار الجحيم في العقبى. وبين ذلك بقوله "النار يعرضون عليها غدوا وعشيا" أي صباحا ومساء ما بقيت الدنيا فإن أرواحهم تعرض على النار صباحا ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار، ولذا قال: "ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" أي يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون أشد عذاب النار ألما وأعظمه نكالا (أنظر ص 481 ج 4 فتح القدير للشوكاني) فالآية حجة في إثبات عذاب القبر، وفيها رد على من أنكره مطلقا لا على من خصه بالكفار، وفيها دليل على أن الأرواح باقية بعد فراقها، وهو قول أهل السنة والجماعة.

"فائدة" هذه الآية مكية وقد استدل بها على عذاب القبر وقد روى إسحاق بن سعيد عن أبيه عن عائشة أن يهودية كانت تخدمها (بضم الدال وكسرها) فلا تصنع إليها عائشة شيئا من المعروف إلا قالت لها اليهودية: وقاك الله عذاب القبر. قالت: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علي فقلت: يا رسول الله قل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟ قال: لا. وعم ذلك (أي لم تسألين عن ذلك) قالت: هذه اليهودية لا نصنع إليها شيئا من المعروف وإلا قالت: وقاك الله عذاب القبر. قال: كذبت يهود لا عذاب دون يوم القيامة. ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات يوم نصف النهار مشتملا بثوبه محمرة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته: أيها الناس أظلتكم الفتن كقطع الليل المظلم. أيها الناس لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا. أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإن عذاب القبر حق" أخرجه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح (أنظر ص 54 ج 3 مجمع الزوائد "ما جاء في عذاب القبر").
(وقالت) عائشة: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة من اليهود وهي تقول: أشعرت أنكم تفتنون في القبور؟ فارتاع النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنما تفتن اليهود. فقالت عائشة: فلبثنا ليالي، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: هل شعرت أنه أوحى إلي أنكم تفتنون في القبور؟ فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يستعيذ من عذاب القبر. أخرجه أحمد ومسلم (انظر ص 121 ج 8 - الفتح الرباني) فهذان الحديثان يدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علم بعموم عذاب القبر وهو بالمدينة. وآية "النار يمرضون عليها غدوا وعشيا" وآية "يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين" مكيتان، وفيهما دليل على عذاب القبر لغير المؤمنين (أنظر ص 153 ج 3 فتح الباري).

الصفحة 19