كتاب الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق (اسم الجزء: 8)

ذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره.
... وقال تعالى: "ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون" (¬1).
... احتج ابن عباس على عذاب القبر، وذلك لأن قوله "من العذاب الأدنى" يدل على أنه يبقى بعد ما يذوقونه منه في الدنيا بقية يذوقونها بعد الموت، والعذاب الأكبر بعد الحشر. وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: فيفتح له طاقة إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، فإن الذي يصل إليه بعض ذلك ويبقى أكثره.
... وقال تعالى: "وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم" (¬2).
¬_________
(¬1) سورة السجدة: آية 21 (والعذاب الأدنى) مصائب الدنيا وفتنة القبر وعذابه (والعذاب الأكبر) عذاب الآخرة "لعلهم يرجعون" أي لعل من بقى منهم يثوب فيرجع.
(¬2) سورة التوبة: آية 101. و (مردوا على النفاق) أي مرنوا واستمروا عليه وثبتوا عليه ثبوتا شديدا ومهروا فيه حتى خفى أمرهم على النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بسائر المؤمنين ولذا قال: "لا تعلمهم" أي لا تعلم أعيانهم فلا ينافى أن للنفاق دلائل لا تخفى عليه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى "ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول" سورة القتال: آية 30. ولقوله "نحن نعلمهم" مقرر لما قبله لما فيه من الدلالة على أنهم مهروا في النفاق ورسخوا فيه على وجه يخفي على البشر ولا يظهر لغير الله تعالى لعلمه بما يخفي وما تكنه الضمائر. ثم توعدهم بقوله "ستعذبهم مرتين" أي في الدنيا بالفضيحة وإظهار حالهم وفي القبر بالعذاب والنكال "ثم يردون إلى عذاب عظيم" وهو عذاب الآخرة في النار.
(روى) أبو مالك عن ابن عباس في قوله "وممن حولكم من الأعراب" الآية، قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال "أخرج يا فلان إنك منافق وأخرج يا فلان فإنك منافق" فأخرج من المسجد ناسا منهم فضحهم. فجاء عمر وهم يخروجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة (أي أنه لما رآهم خارجين ظن أنهم فرغوا من الصلاة فاستحيا أن يواجههم) وظن أن الناس قد انصرفوا، واختبئوا هم من عمر. ظنوا أنه قد علم بأمرهم، فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا، فقال له رجل من المسلمين: أبشر يا عمر قد فضح الله المنافقين اليوم. قال ابن عباس: فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد والعذاب الثاني عذاب القبر. أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط (انظر ص 231 ج 4 تفسير ابن كثير).

الصفحة 20