كتاب الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق (اسم الجزء: 8)

(وأما) محل العذاب فالروح والبدن جميعا باتفاق أهل السنة والجماعة، فإذا مات العبد تبقى روحه منعمة أو معذبة، تارة منفردة عن البدن، وتارة متصلة به، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحالة مجتمعين (¬1)، فإذا كان يوم القيامة أعيدت الأرواح إلى الأجساد وقاموا من قبورهم لرب العالمين وتعاد الأبدان. وهذا متفق عليه بين أهل الشرائع المسلمين واليهود والنصارى (¬2). وإنما أوقع من أحال عذاب القبر في الضلال قياسهم غيب المال على شاهد الحال.
(والجواب) عن شبههم أنا نعلم أن الرسل صلوات الله عليهم وسلام لم يخبروا بما يحيله العقل، غاية ما يقال إنهم يخبرون بما لا تدركه العقول بمجردها، كالغيوب من تفاصيل البرزخ واليوم الآخر والثواب والعقاب. ولا يكون خبرهم محالا في العقل أصلا، بل كل خبر يظن أن العقل يحيله، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون كذبا عليهم، أو يكون ذلك العقل فاسدا، وهو شبهة خيالية يظن صاحبها أنها معقول صريح، قال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى؟ } (¬3).
... وهذا يندفع بأمور ملاكها أن ننعم النظر في السنة مع التلبس بثوب الافتقار والتضرع للملك الجبار حتى نفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا نحمل كلامه ما لا يحتمله ولا نخرج به عن مراده، وقد حصل بإهمال ذلك من الضلال ما لا يعلمه إلا الله، وسوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أصل كل بدعة وضلالة، بل أصل كل خطاء في الأصول والفروع، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس وعرضه على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما من عكس الأمر فعرض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يعتقده مما قلد فيه من أحسن الظن به فهو في الضلال لا ينفعه جدال، فدعه وما اختاره لنفسه ووله ما تولى وسل الله العافية (¬4).
¬_________
(¬1) انظر ص 80 كتاب الروح.
(¬2) انظر ص 83 منه.
(¬3) سورة الرعد: آية 19 وانظر ص 99 كتاب الروح.
(¬4) انظر ص 100 منه.

الصفحة 25