كتاب ديوان الأحكام الكبرى أو الإعلام بنوازل الأحكام وقطر من سير الحكام

قلت: وكذلك إن كان حدادً واتخذ فيها كيرًا أو فرنًا أو رحى تضر بجدران الجيران قال: يمنع من ذلك.
فإنما رعى ابن القاسم في ذلك ضرر الدخان وما يضر بالجدر، ومعروف متى رفع به البنيان وقطع به ضوء الشمس أن القيمة تنحط بذلك فيما أحدث عليه الرفع ولو كان انحطاط القيمة يراعي في ذلك لذكره ابن القاسم وبينه، ولم يترك ذكره. هذا موضع الاستدلال بهذه الروايات.
وفي المستخرجة: سئل مالك: أترى من قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "لا ضرر ولا ضرار" أن يستأذن الرجل جاره في خشبة يغرزها في جداره، فيأذن له ثم يغضبه فيريد نزعها؟ فقال: إذا أذن له فما أرى له نزعها على وجه الضرر؛ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: "لا ضرر ولا ضرار" فهذا منه. فأما إن كان احتاج إلى جداره لأمر لم يرد به ضررًا، رأيت للرجل أن يبني في جداره ويرفعه ما بدا له، وإن كان في ذلك مضرة على جيرانه، لأن الرجل يعمل في حقه ما أحب.
وقال أشهب في موضع آخر: وما احتكره الرحل في ملكه مما بجاره، فليس له ذلك إن كان يجد منه بدًا، ولم يضر ليه، فأما إن كان به ضرورة إليه فله أن يحتفر في حقه، وإن أضر بجاره، لأنه يضر به منعه كما أضر بجاره حفره، فهو أولى أن يمنع جاره أن يضر به في منعه له من الحفر في حقه؛ لأنه ماله.
وكذلك قال لي مالك فلم يرد مالك بقوله: إن أضر ذلك بجيرانه، وقول أشهب عنه: وإن أضر حفره بجاره أن ذلك ضرر دخان أو اطلاع؛ لأنه قد نص على المنع من ذلك، وفي مسائله وكتب أصحابه، وإذا لم يرد هذا النوع من الضرر فلا يتوجه قوله هذا إلا إلى ضرر يؤول إلى انحطاط القيمة أو ما يدخل في معناه.
وقد كان من فتي الشيوخ عندنا فيمن أراد أن يفتح بابًا في زقاق نافذ: أنه إن كان الزقاق ضيقًا نكب عن باب جاره إن أمكنه التنكيب، وإن لم يمكنه التنكيب لم يمنع من الفتح، وإن كان فيه ضرر على جاره.
وفي الواضحة: قال مطرف وابن الماجشون واصغ في الرجل يريد أن يبني وقربه أندر، وهو يحبس بنيانه الريح عن الأندر، فلا يمنع من البنيان في حقه وجد عنده مندوحه أو لم يجد، وإن كان في بنيانه بطلان الأندر لأن الأندر نفعه يصرف إلى غيره، ولو منع

الصفحة 659