كتاب ديوان الأحكام الكبرى أو الإعلام بنوازل الأحكام وقطر من سير الحكام

جيدة، ولم يمنعه من فتح الباب، وألزمه بنيان ما لم يكن له حاجة إليه.
وكان الشيوخ عندنا قديما يختلفون في الرجل يجعل في داره رحى أو شبهه، مما له دوي أو صوت يستضر به، فذهبت طائفة منهم إلى المنع من ذلك، وطائفة لم تمنعنه، ورأيت فيها جوابً لابن عثمان بن عبد ربه ابتدأه بأن قال: قال أبو بكر عبد الرحمن: وإذا اجتمع ضرران اسقط الأصغر للأكبر، ومنع الرجل من الانتفاع بماله وضيعته التي يقوم بها معاشه أكبر ضررًا من الذي يتأذى بدوي الطاحن، فالضرر الأكبر عنده هو منع الرجل من التصرف في ماله، والضرر الأصغر هو اعتراض جاره عليه.
وإنما ذكرت هذه الحكاية عن أبي بكر بن عبد الرحمن، وهو أحد المشيخة السبعة، وهو موافق لما رواه أشهب عن مالك، وهذه مسألة قد نزلت قديمًا عندنا ولم نسمع أحدًا من فقهائنا جعل انحطاط قيمة ما يجاور ذلك ضررًا يمنع به من الإحداث، وإنما جعلوا الضرر في ذلك الدخان ومصب المياه وما شبهه.
ولم يذكر أحد من الموثقين في وثائقهم القديمة والحديثة وثيقة في معنى انحطاط القيمة، ولو كان ذلك مما يقضي به ويحكم لذكروه كما ذكروا وثائق الضرر؛ إذ ذلك مما يكثر نزوله بين الناس في القديم والحديث.
ومما يؤيد ما ذكرته من أن انحطاط القيمة لا تراعى: اتفاق الجميع فيمن أحدث فرنًا على فرن آخر قديم، أو حمامًا على حمام، أو رحى على رحى قديمه، ولا يضر المحدث من ذلك بالقديم في شيء من وجوه الضرر إلا في نقصان الغلة أو قلة العمارة أنه لا يمنع محدث ذلك من إحداثه، وليس لصاحب القديم اعتراض في ذلك، ومعلوم إنه إذا قلت العمارة أو الاستغلال أن القيمة تنحط، بل ربما آل ذلك إلى أن يبطل القديم بسبب ما أحدث عليه.
وفيما قدمت ذكره ما يدل على صحة ما قلته فيه واعتقدته ولكل مسألة تقدمت شاهد يؤيدها من الأثر والقياس والنظر، تركت ذلك إذ لم أقصد إلى الاحتجاج إلا الاستدلال أو الرد على من خاف قولي، وإنما قصدت إلى التبيان عنه على سبيل الفتوى، وما جرت به عادة شيوخنا – رحمهم الله – وإن أحب القاضي – وفقه الله – الوقوف على مواضع الحجة ووجوه الأدلة كتبت به إليه، والله عز وجل أسأله حسن العون عليه، والتوفيق لما فيه النجاة لديه برحمته.

الصفحة 661