كتاب شرح ديوان المتنبي للعكبري (اسم الجزء: 1)

- 1 - الْغَرِيب الكمد الْحزن مَعَ هم والاقناع مثل القناعة الْمَعْنى يَقُول شوقى إِلَى الْأَحِبَّة لَا يقنع منى بِهَذَا الْحزن الذى أَنا فِيهِ حَتَّى يخرق كبدى ويوله عَقْلِي فأصير مَجْنُونا ذَاهِب لِلْعَقْلِ الْمَعْنى قَالَ ابْن جني للم يبْق فِي فضل للشكوى وَلَا فِي الديار أَيْضا فضل للشكوى لِأَن الزَّمَان أبلاها قَالَ ابْن فورجة ذهب أَبُو الْفَتْح إِلَى أَن تَقْدِير الْكَلَام وَلَا الديار تَشْكُو إِلَى وَقد علم أَن الديار كلما كَانَت أَشد دثورا وبلى كَانَت أشكى لما تلاقى من الوحشة بِفِرَاق الْأَحِبَّة فَكيف جعل الديار لَا فضل فِيهَا للشكوى وشكواها لَيست بحقيقية وَإِنَّمَا هى مجازية وَإِنَّمَا تكون على مَا ذكر لَو أَن شكواها حَقِيقَة وَكَانَت تقصر عَنهُ لِضعْفِهَا وبلاها كَمَا يَصح ذَلِك فى العاشق كَقَوْل الببغاء
(لم يبْقَ لى رَمَق أشْكو إِلَيْك بهِ ... وَإِنَّمَا يَتَشَكَّى من بِهِ رَمَقُ)
وَأَيْضًا لَو كَانَ كَمَا ادّعى لم يكن لعطف هَذِه الْجُمْلَة على قَوْله
(مَا الشوق مقتنعا ... )
معنى وَلما عطفها عَلَيْهَا دلّ على أَنَّهَا مِنْهَا وَإِنَّمَا يعْنى لَا الشوق يقنع منى بِهَذَا الكمد وَلَا الديار تقنع منى بِهِ وَتمّ الْكَلَام عِنْد قَوْله
(كَانَ الحبيب بهَا ... )
ثمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ هَذِه الديار تَشْكُو إِلَى وحشتها بِفِرَاق أَهلهَا وَأَنا لَا أَشْكُو إِلَى أحد إِمَّا لجلدى وَإِمَّا لأنى كتوم لأسرارى يكون قد نظر إِلَى قَول الْقَائِل
(فإنّى مِثْلُ مَا تَجدين وجْدى ... ولكنِّى أُسِرُّ وتُعْلِنينا)
قَالَ الواحدى يُمكن تَوْجِيه الْمَعْنى من غير أَن يتم الْكَلَام فى المصراع الأول وَهُوَ أَن يكون وَلَا تقنع الديار الَّتِى كَانَ الحبيب بهَا يشكو ألى أى يطلعنى على أمره وَأَنا لَا أفشى سرى على رِوَايَة يشكو بِالْيَاءِ وَمن روى بِالتَّاءِ كَانَت الديار الشاكية يُرِيد بِلِسَان الْحَال مَا دفعت إِلَيْهِ من الوحشة والخلاء فتشكو يُرِيد بِهِ الْحَال لَا الِاسْتِقْبَال وَلَا أَشْكُو إِلَى أحد لِأَنَّهُ لَيْسَ بهَا غيرى
3 - الْغَرِيب هزيم الودق أَرَادَ سحابا هزيم الودق وَهُوَ الذى لَا يسْتَمْسك كَأَنَّهُ مُنْهَزِم عَن مَائه وَيُقَال غيث هزيم ومنهزم وَأكْثر مَا يستعملان فى صفة السَّحَاب وَهُوَ الذى لرعده صَوت يُقَال سَمِعت هزيمَة الرَّعْد وَلَا يسْتَعْمل فى صفة الودق الْمَعْنى يَقُول مَا زَالَت كَثْرَة الأمطار تنْحَل هَذِه الديار أى تدرسها كَمَا ينحلنى السقام حَتَّى صَارَت حاكية جسدى فى النحول والدروس وَهَذَا من قَول الشَّاعِر
(يَا منزِلاً ضَنَّ بالسَّلامِ ... سُقِيتَ صَوْبا مِن الغَمامِ)

(مَا ترَك المُزْنُ مِنكَ إلاَّ ... مَا ترَك السُّقْمُ مِن عظامى)
وَمثله للبحترى
(حَمَلَتْ مَعالِمُهُنَّ أعْباء البِلَى ... حَتَّى كأنَّ نُحُولَهُن نُحُول)

4 - الْغَرِيب غاض نقص والمصطبر الاصطبار الْمَعْنى يَقُول كَأَن دمعى جَار من جلدى لأنى كلما بَكَيْت نقص صبرى فَكَأَن دمعى من صبرى
5 - الْإِعْرَاب من زافراتى يتَعَلَّق بِمَعْنى أَيْن تَقْدِيره أبعيد حبيبتى من زفراتى أم قريب الْمَعْنى يَقُول أَيْن محبوبى من معرفَة زفراتى وَمَا بى من الشوق وَالْحَسْرَة على فِرَاقه وَأَيْنَ تقع نَفسك أَيهَا الممدوح من صولة الْأسد فَمَا صولتك إِلَّا فَوق صولة الْأسد وَهَذَا يُنكر أَن يعرف الحبيب حَاله وَأَن تكون صولة الْأسد كصولة الممدوح وَهَذَا من المخالص الجيدة
6 - الْمَعْنى قَالَ الواحدى لما رجحت كفتك وَقد وضعت الدُّنْيَا وَأَهْلهَا فى الكفة الثَّانِيَة علمت أَن الرزانة للمعانى لَا للأشخاص أى إِذا رجح الْوَاحِد على الْكثير كَانَ ذَلِك الْكثير قَلِيلا بِالْإِضَافَة إِلَى ذَلِك الْوَاحِد الرَّاجِح وَقد قَالَ البحترى
(ولمْ أرَ أمُثالَ الرّجالِ تَفاوَتَتْ ... لَدَى المَجْدِ حَتَّى عُدَّ ألْفٌ بِوَاحِدِ)

7 - الْغَرِيب الْخلد البال والروع يُقَال مَا وَقع فى بالى وَلَا فى روعى الْمَعْنى يَقُول لم يَقع فى قلب الْأَيَّام أَن تسرنى حَتَّى وَقعت أَنْت فى قلبى أَن أقصدك وأمدحك وَمَعْنَاهُ مَا أَقبلت على الدُّنْيَا حَتَّى أملتك وقصدتك وَهَذَا من قَول الشَّاعِر
(إِن دَهْراً يَلف شَمْلِى بسَلْمَى ... لزَمَانٌ يَهُمُّ بالإِحْسانِ)

8 - الْمَعْنى يُرِيد أَن خزائنه إِذا امْتَلَأت بِالْمَالِ فرق بَينهَا وَبَينه فتثكل المَال كَمَا تثكل الوالدة وَلَدهَا قَالَ الواحدى جعل الحزائن كالأم وَالْمَال كَالْوَلَدِ وَهُوَ من قَول أَبى نواس
(إِلَى فَتَّى أُمُّ مَا لِه أبَداً ... تَسْعَى بجَيْبٍ فى النَّاسِ مَشْقُوق)

9 - الْإِعْرَاب ماضى خبر ابْتِدَاء مَحْذُوف أَو هُوَ بدل من ملك فى الْبَيْت الأول الْمَعْنى يَقُول هُوَ ماضى الْجنان أى الْقلب يُرِيد أَنه ذكي حزمه فى الْأُمُور يرِيه بِقَلْبِه مَا ترَاهُ وَبعد غَد وَمَعْنَاهُ أَنه يفْطن بالكائنات قبل حدوثها كَمَا قَالَ أَوْس
(الألَمعِىُّ الذىِ يَظُنُّ بِكَ الظَّنَّ ... كأنْ قَدْ رأى وَقَدْ سَمِعا)
وَقَالَ الطائى
(وَلِذَاكَ قِيلَ مِنَ الظُّنُونِ جَلِيَّةٌ ... عِلْمٌ وفِى بَعْضِ القُلُوبِ عُيُونُ)
وَالْمرَاد بِهَذَا كُله صِحَة الحدس وجودة الظَّن
10 - الْإِعْرَاب مَا هى النافية وسماح من رَوَاهُ بِالنّصب جعله خَبرا لما وهى مشبهة بليس وَمن رَفعه فَهُوَ على التميمية وَالْجُمْلَة فى مَوضِع رفع صفة السماح الْغَرِيب الْبَهَاء الْحسن وَمِنْه بهى بِالْكَسْرِ وبهو بِالضَّمِّ فَهُوَ بهى الْمَعْنى قَالَ الواحدى يَقُول أَنا أجل من أَن يكون بشرا فَإِن مَا نشاهده فِيك من الْجمال والنور لَا يكون فى بشر وَلَيْسَ سماحك سماح يَد بل هُوَ سماح غيث وبحر وفى مَعْنَاهُ
(يَجِلُّ عَنِ التَّشْبِيهِ لَا الكَفُّ لُجَّةٌ ... وَلَا هُوَ ضِرْغامٌ وَلَا الرأىُ مُخْذَمُ)

11 - الْإِعْرَاب مَا فى مَا أنْفق مَصْدَرِيَّة وَقد وَقعت الْجُمْلَة موقع الْحَال وَالضَّمِير رَاجع إِلَى الْغَيْث وَالْيَد الْمَعْنى يَقُول أى كف تبارى الْغَيْث توَافق وتشاكل فى حَال اتِّفَاقهمَا مَا طرين

الصفحة 349