كتاب شرح ديوان المتنبي للعكبري (اسم الجزء: 3)

وَإِنَّمَا هُوَ من رُؤْيَة الْقلب يُرِيد بِهِ التَّوَهُّم وَغير الشَّيْء يجوز أَن يتَوَهَّم وَمثله كثير وَقَالَ ابْن القطاع قد أوخذ فِي هَذَا الْبَيْت فَقبل كَيفَ يرى غير شَيْء وَغير شَيْء مَعْدُوم ولمعدوم لَا يرى وَفِيه تنَاقض وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا قَالُوا بل أَرَادَ غير شَيْء يعبأ بِهِ وَالصَّحِيح أَن شَيْئا فِي هَذَا الْبَيْت يُرِيد بِهِ إنْسَانا خَاصَّة يُرِيد إِذا رأى غير إِنْسَان ظَنّه رجلا يَطْلُبهُ لِأَن خَوفه من الْإِنْسَان وَقَالَ الواحدي إِذا رأى غير شَيْء يعبأ بِهِ أَو يفكر فِي مثله ظَنّه إنْسَانا يَطْلُبهُ وَكَذَلِكَ عَادَة الهارب الْخَائِف كَقَوْل جرير
(مَا زَالَ يَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ بعْدَهْم ... خَيْلاً تَكُرُّ عَلَيْهمُ وَرِجالاً)
قَالَ أَبُو عبيد لما أنْشد الأخطل قَول جرير هَذَا قَالَ سَرقه وَالله من كِتَابهمْ يحسبون كل صَيْحَة عَلَيْهِم الْآيَة وَيجوز حذف الصّفة وَترك الْمَوْصُوف دَالا عَلَيْهَا كَقَوْلِه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد إِلَّا فِي الْمَسْجِد أَجمعُوا على أَن الْمَعْنى لَا صَلَاة كَامِلَة فاضلة وَيَقُولُونَ هَذَا لَيْسَ بِشَيْء يُرِيدُونَ شَيْئا جيدا وَقَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين إِن الله خلق الْأَشْيَاء من لَا شَيْء فَقيل هَذَا خطأ لِأَن لاشيء لَا يخلق مِنْهُ شَيْء وَمن قَالَ إِن الله يخلق من لَا شَيْء جعل لاشيء شَيْئا يخلق مِنْهُ وَالصَّحِيح أَن يُقَال يخلق لَا من شَيْء لِأَنَّهُ إِذا قَالَ لَا من شَيْء نفى أَن يكون قبل خلقه شَيْء يخلق مِنْهُ الْأَشْيَاء انْتهى كَلَامه وَالصَّحِيح مَا قَالَه أَي إِذا رأى غير شَيْء يخَاف مِنْهُ وَمِنْه {حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا} مَعْنَاهُ يُريدهُ أَو يَطْلُبهُ أَو يُغْنِيه عَن المَاء أَي شَيْئا نَافِعًا مغنيا الْمَعْنى يَقُول لشدَّة خوفهم وَمَا لحقهم من الْخَوْف ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض فَلم يَجدوا مهربا كَقَوْلِه تَعَالَى {وَضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ} فهاربهم إِذا رأى غير شَيْء مفزع فزع مِنْهُ لخوفه وَهَذَا كَقَوْلِه الْبَيْت بعده
19 - الْمَعْنى قَالَ الواحدي يُرِيد قل قدرهم وعددهم وذلوا حَتَّى لَو ركضوا بخيلهم فِي لَهَوَات صبي مَعَ صغر حلقه لما سعل وَإِذا غص الْإِنْسَان بِشَيْء صَغِير لم يسعل وَإِنَّمَا يسعل الْإِنْسَان بِشَيْء كَبِير الْجِسْم لَا بِشَيْء صَغِير الْقدر وَلكنه حمل الْكَلَام على لفظ الْقلَّة كَقَوْلِه
(أماتَكُمُ مِنْ قَبْلِ مَوْتِكُمُ الجَهْلُ ... وَجَرَّكُمُ مِنْ خِفَّةٍ بِكُمُ النَّمْلُ)
اعْتمد على اللَّفْظ وَجعل الْمجَاز بِمَنْزِلَة الْحَقِيقَة كَذَا هَاهُنَا وَيجوز أَن يَجْعَل الطِّفْل مِنْهُم أَي مَا جسر الطِّفْل مِنْهُم أَن يسعل خوفًا وإشفاقا مَعَ أَنه لَا عقل لَهُ فَكيف الظَّن بكبيرهم فِي أَمر الْخَوْف وَله عقل بالخوف وعَلى هَذَا ركضت فعل خيل النَّصْر وقبيلته وَقَومه

الصفحة 169