كتاب دراسات في علم اللغة

من المعروف أن الخليل لم يبدأ ترتيبه المخرجي للأصوات بالهمزة، وإنما بدأه بصوت العين، مخالفا بذلك أكثر علماء العربية ومنهم تلميذه سيبويه، ومخالفا أيضا ما كنا نتوقعه من باحث عبقري مثله في شئون الأصوات والموسيقا اللغوية.
ولقد قدم تعليل مشهور لتسويغ هذا المسلك الذي سلكه الشيخ الكبير نحو موقع الهمزة في سلسلة الأصوات العربية من حيث مخارجها ومواضع نطقها. يروي السيوطي في المزهر عن ابن كيسان أنه قال: "سمعت من يذكر عن الخليل أنه قال: لم أبدأ بالهمزة لأنها يلحقها النقص والتغيير والحذف، ولا بالألف لأنها لا تكون في ابتداء كلمة ولا في اسم ولا فعل إلا زائدة أو مبدلة، ولا بالهاء لأنها مهموسة خفية لا صوت لها، فنزلت إلى الحيز الثاني، ومنه العين والحاء فوجدت العين أنصع الحرفين، فابتدأت به ليكون أحسن في التأليف"1.
فهذا النص -إن صحت روايته- يدل على أن الخليل كان يدرك أن الهمزة هي أول الأصوات العربية مخرجا. وبذلك يتفق مع سيبويه وغيره من الباحثين العرب، كما يتفق مع وجهة النظر الحديثة في ذلك. ولكن الخليل -على الرغم من هذا الإدراك- لم يشأ أن يبدأ بها الألفباء الصوتية، لأنها في نظره غير مستقرة الصورة النطقية، ولم ترق إلى درجة غيرها من الأصوات التي هي أحق منها "ومن غيرها" في أن تتصدر الأصوات العربية، وهي العين لقوتها ونصاعتها.
وعلى فرض التسليم بصحة هذا الاحتمال -وهو إدراك الخيل لموقع الهمزة بين الأصوات- فما زال هذا النص السابق نفسه يدل على اضطراب الخليل في فهم حقيقة الهمزة وغيرها من الأصوات. إن ظواهر النقص والتغيير
__________
1 المزهر للسيوطي جـ1 ص90.

الصفحة 69