كتاب درء تعارض العقل والنقل (اسم الجزء: 6)

فيقال لك: العقل إنما يثبت أموراً كلية مطلقة، لا يثبت شيئاً معيناً إلا بواسطة غيره، كالحس وتوابع الحس، ولهذا كان القياس العقلي المنطقي لا ينتج إن لم يكن فيه قضية كلية، وإذا أردنا أن ندخل شيئاً من المعينات تحت القضايا الكلية، فلا بد من تصور للمعينات غير التصور للقضايا الكلية.
فإذا علمنا أن كل شيء: فإما قائم بنفسه أو بغيره، وان كل موجود: فإما واجب بنفسه وإما ممكن بنفسه، وأن كل موجود: فإما قديم وإما محدث، وأن كل موجود أو كل ممكن فهو: إما جوهر وإما عرض، وأردنا أن نحكم على معين بأنه قديم أو محدث، أو جوهر أو عرض، أو واجب أو ممكن، أو نحو ذلك، فلا بد من أن نعينه بغير ما به علمنا تلك القضية الكلية، فتصور المعين الداخل في القضية الكلية شيء وتصور القضية الكلية شيء آخر.
فليتدبر الفاضل هذا، ليتبين له أن من لم يثبت موجوداً يمكن الإحساس به لم يثبت إلا قضايا كلية في الأذهان، كما يثبتون العدد المطلق، والمقدار المطلق، والحقائق المطلقة، والوجود المطلق، وكل هذه أمور ثابتة في الأذهان، لا موجودة في الأعيان.
ولهذا من أثبت أن في الوجود موجوداً واجباً قديماً، وقال: إنه يمتنع الإشارة إليه، امتنع أن يكون عنده معيناً مختصاً، ولزم أن يكون مطلقاً مجرداً في الذهن، فلا حقيقة له في الخارج.

الصفحة 95