كتاب درء تعارض العقل والنقل (اسم الجزء: 9)

ألا ترى أنه تعالى قال: {أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير} ، فجعل الحجة عليهم طول العمر للتفكر والتذكر، ثم التدبر للتنبيه) .
قلت: فهؤلاء الذين يقولون بوجوب المعرفة بالعقل، وأنها لا تحصل إلا بالعقل، ذكروا أن الرسل بينوا الأدلة العقلية التي يستدل بها الناظر، كما نبهوا الغافل ووكدوا الحجة، إذ كانوا ليسوا بدون من يتعلم الحساب والطب والنجوم والفقه، من كتب المصنفين، لا تقليداً لهم فيما ذكروه، لكن لأنهم يذكرون من الكلام ما يدله على الأدلة التي يستدل بها بعقله.
فهداية الله لعباده بما أنزله من الكتب، وإرشاده لهم إلى الأدلة المرشدة، والطرق الموصلة، التي يعمل الناظر فيها بعقله ما يؤدي إليه من المعرفة، أعظم من كلام كل متكلم، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأبو الخطاب يختار ما يختاره كثير من الحنفية - أو أكثرهم - مع من يقول ذلك من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم - من أن الواجبات العقلية لا يشترط فيها البلوغ، بل تجب قبل البلوغ، بخلاف الواجبات الشرعية.
قال: (واحتج بأنه لو كان في العقل إلزام وحظر، لوجب أن يكون لمعرفة الحسن والقبح أصل في أوائل العقول يترتب عليه ما سواه.
ألا ترى أن للقدم والحدث فيها أصلاً؟ ولو كان ذلك كذلك، لكان من أنكر الحسن والقبح مكابراً لعقله مغالطاً لنفسه، لأن جاحد ما يثبت في البدائه مكابر) .

الصفحة 59