كتاب العقد الفريد (اسم الجزء: 8)

اقتدارها على النحو ومعرفة أوزان الشعر؟ ثم قالت: أرجو أن يكون ذهب عنك بعض ما كان من الحصر والانقباض والحشمة «1» . فقلت: إن شاء اللَّه لقد كان ذلك.
قالت: فإن رأيت أن تنشدنا من بعض ما تحفظ فافعل.
قال: فاندفعت أنشد لجماعة من الشعراء؛ فاستحسنت نشيدي وأقبلت تسألني عن أشياء في شعري كالمختبرة لي، وأنا أجيبها بما أعرف في ذلك، وهي مصغية إليّ، ومستحسنة لما آتى به؛ حتى أتيت على ما فيه مقنع؛ قالت: واللَّه ما قصّرت ولا توهمت في عوام التجار وأبناء السوقة مثل ما معك؛ فكيف معرفتك بالأخبار وأيام الناس؟ قلت: قد نظرت أيضا في شيء من ذلك. فقالت: يا جارية أحضرينا ما عندك. فما غابت عنا حينا حتى قدّمت إلينا مائدة لطيفة، قد جمع عليها غرائب الطعام السري؛ فقالت: إن الممالجة أول الرضاع، فتقدمت، فأقبلت أعذّر بعض التعذير، وهي معي تقطع وتضع بين يديّ، وأنا أغتنم ما أرى من ظرفها وحسن أدبها، حتى رفعت المائدة.
وأحضرت آنية النبيذ، فوضعت بين يديّ صينية وقدح ومغسل، وبين يديها مثل ذلك، وفي وسط المجلس من صنوف الرياحين وغرائب الفواكه ما لم أره اجتمع لأحد إلا لوليّ عهد أو سلطان، وقد عبّيء أحسن تعبئة، وهيّيء أحسن تهيئة. قال إسحاق: فتثاقلت عن الشراب لتكون هي المبتدئة، فقالت: مالي أراك متوقفا عن الشراب؟ قلت: انتظارا لك، جعلت فداك! فسكبت قدحا آخر فشربت.
ثم قالت: هذا أوان المذاكرة، فإن المذاكرة بالأخبار وذكر أيام الناس مما يطرب. قلت: لعمري إن هذا لمن أوقاته. فاندفعت، فقلت: بلغني أنه كذا وكذا ... وكان رجل من الملوك يقال له فلان بن فلان ... وكان من قصته كذا وكذا ... ، حتى مررت بعدة أخبار حسان من أخبار الملوك، وما لا يتحدث به إلا عند ملك أو خليفة؛ فسرّت بذلك سرورا شديدا، ثم قالت: واللَّه لقد حدّثتني

الصفحة 159