كتاب الاختيارات الفقهية للشيخ عبيد الله المباركفوري كتاب الصيام والاعتكاف
وإنما اشتُرِطَ عليه الأكل سرا، حتى لا يراه أحد؛ لأنه إذا أظهر الفطر عَرَّض نفسه للتُهمَة وعقوبة السلطان (¬1).
الدليل الثاني: ولأنه قد تَيقَّن أن هذا اليوم من شوال، فحَلَّ له الأكل؛ كما لو قامت البينة (¬2).
الدليل الثالث: ولأن يقين نفسه أبلغ من الظن الحاصل بالبَيِّنة (¬3).
الدليل الرابع: ولأنه لا يجوز له أن يعتقد الصوم، وهو يعلم أنه عليه حرام؛ لأنه يوم العيد عنده (¬4).
الدليل الخامس: ولأن العبد إنما يعامل الله بما يعلمه (¬5).
فلا يجوز له أن يترك ما يعتقده، ويقلد غيره.
الراجح: الذي يترجح -والله أعلم- هو القول الأول: أنه لا يجوز له الفطر سِرّا؛ لقوة ما استدلوا به؛ ولأن حديث أبي هريرة وأثر عائشة - رضي الله عنهما - بَيَّنا أن الفطر لا يكون إلا مع جماعة المسلمين، و (سَدّا للذريعة) (¬6).
وأما أدلة القول الثاني فيجاب عنها بما يلي:
أولا: أما استدلالهم بحديث صوموا لرؤيته الحديث فيجاب عنه من وجهين:
الوجه الأول: أن الخطاب في الحديث ورد بصيغة الجمع، فهو متوجه إلى الأمة بعمومها لا بأفرادها.
الوجه الثاني: أن الصيام والعيد من العبادات التي يراعى فيها الاجتماع كالصلوات المفروضة.
ثانيا: وأما قولهم: إنه يتيقن أنه من شوال، فيجاب عنه:
أن اليقين قد لا يثبت؛ لأنه يحتمل أن يكون الرائي خُيِّل إليه، كما روي أن رجلا في زمن عمر ¢، قال: لقد رأيت الهلال. فقال له: امسح عينك. فمسحها، ثم قال له: تراه؟ قال: لا. قال: لعل شعرة من حاجبك تقوست على عينك، فظننتها هلالا (¬7).
¬_________
(¬1) ينظر الحاوي 3/ 449، البيان 3/ 485، حلية العلماء 3/ 152، المهذب للشيرازي 1/ 330.
(¬2) ينظر: البيان للعمراني 3/ 485.
(¬3) ينظر: المجموع 6/ 280، وشرح عمدة الفقه كتاب الصيام لابن تيمية 1/ 155.
(¬4) ينظر: البيان والتحصيل للجد 2/ 351 - 352.
(¬5) ينظر: شرح العمدة كتاب الصيام لابن تيمية 1/ 135.
(¬6) الذَّرِيعة: هي المسألة التي ظاهرها الإباحة، ويُتوصل بها إلى فعل المحظور. وسَدّها: منع الوسائل المؤدية إلى المفاسد حسما للفساد. ينظر: أصول الفقه الذي لا يسع جهله ص 211. إرشاد الفحول 2/ 193.
(¬7) ينظر: المغني 3/ 167، المبسوط للسرخسي 3/ 79، والبناية للعيني 4/ 25.