كتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين - ط عطاءات العلم (اسم الجزء: 3)

في الحكم بين الفريقين، والقضاء الفَصْل بين المتغالبين، ولْيُبطِل الحجج والأدلّة من أحد الجانبين، ليسلَم له قول إحدى الطائفتين، وإلا فيلزم حدَّه، ولا يتعدَّى طورَه، ولا يمدُّ إلى العلم الموروث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باعًا يقصُر عن الوصول إليه، ولا يتَّجر بنقدٍ زائف لا يَرُوج عليه. ولا يتمكَّن من الفصل بين المقالتين إلا من تجرَّد لله مسافرًا بعزْمةٍ وهمَّةٍ إلى مطلع الوحي، مُنزِلًا نفسه منزلةَ من يتلقاه غضًّا طريًّا من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يَعرِض عليه آراء الرجال ولا يَعرِضه عليها، ويحاكمها إليه ولا يحاكمه إليها.
فنقول ــ وبالله التوفيق ــ: إن الله تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفًا ودلالةً على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئًا عرَّفه بمراده وما في نفسه بلفظه، ورتَّب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامها بواسطة الألفاظ، ولم يرتِّب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يُرِدْ معانيها ولم يُحِطْ بها علمًا، بل تجاوزَ للأمة عما حدَّثتْ به أنفسَها ما لم تكلَّم به أو تعمل به (¬١)، وتجاوزَ لها عما تكلَّمتْ به مخطئةً أو ناسيةً أو مُكرَهةً (¬٢) أو غير عالمة به، إذا لم تكن مريدةً لمعنى ما تكلَّمتْ به وقاصدةً إليه، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتَّب الحكم.
هذه قاعدة الشريعة، وهي من [٣٦/أ] مقتضيات عدل الله وحكمته ورحمته، فإن خواطر القلوب وإرادات النفوس لا تدخل تحت الاختيار، فلو
---------------
(¬١) رواه البخاري (٦٦٦٤) ومسلم (١٢٧) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -
.
(¬٢) سيأتي تخريجه قريبًا.

الصفحة 592