كتاب علم اللغة

وكثيرًا ما تغري الملاحظة الذاتية الباحثين بالتسرع في أحكامهم؛ فقد يكون بعض ما يصدر عنهم من ظواهر لغوية خاصًّا بهم, لا يشترك معهم فيه غيرهم من الأفراد؛ فالاقتصار على الملاحظة الذاتية في حالات كهذه يغرر بالباحثين, ويجعلهم ينظرون إلى أمور فردية نظرتهم إلى ظواهر عامة.
هذا إلى أن الفرد لا يمكن أن يمثل في حياته الفردية إلّا ناحية يسيرة من ظواهر لغته, فالاقتصار على الملاحظة الذاتية يجعل دائرة البحث ضيقة كل الضيق.
على أن ثَمَّ ظواهر لغوية كثيرة لا تمكن فيها مطلقًا الملاحظة الذاتية, ومن ذلك: الظواهر اللغوية في أدوار الطفولة الأولى, وذلك لأن الطفل لا يشعر بما يصدر عنه, وما يقوم به من ظواهر لغوية شعورًا دقيقًا, ولا يستطيع أن يصفه وصفًا يعتد به.
وقد دلت التجارب على خطأ الملاحظة الذاتية حتى في الظواهر اللغوية الداخلية التي لا يدركها بشكل مباشر إلّا المتكلم نفسه؛ كحركات اللسان مثلًا في أثناء النطق بصوت ما, فقد ظهر للباحثين بعد أن استخدموا الأجهزة الدقيقة في دراسة هذه الطائفة من الظواهر فساد كثير من النظريات القديمة التي كان مصدرها الملاحظة الذاتية.
وكثير من العلماء لا يطمئن كذلك إلى الملاحظة الخارجية في شكليها السلبي والإيجابي, أما شكلها السلبي فلبطئه وضآلة محصوله, فإذا اقتصر الباحث على ملاحظة الناس في حالاتهم العادية فقد ينقضي عمره قبل أن يتم له تحقيق مسألة لغوية واحدة, وأما شكلها الإيجابي فلأنه عرضة للزلل وخطأ التأويل. فقد لا يفهم الملاحظ -بفتح الحاء- حق الفهم ما يُلْقَى عليه من أسئلة فيجيب إجابات مضللة. هذا إلى أن شعوره بأن لغته موضوع ملاحظة يغير من اتجاهها, ويخرج بها عن حالاتها الطبيعية.
ووجهت كذلك اعتراضات كثيرة إلى الملاحظة الصوتية -ملاحظة

الصفحة 38