كتاب مجلة الأستاذ

حتى تمت معدات الحياة الوطنية فتخلص كثير من الممالك إلى الاستقلال بعد التربية تحت أحضان الشرقيين. ثم كانت الحروب الصليبية فاختلط الفريقان ودام الالتحام الدموي بينهما قرنين أخذ الغربيون فيهما كثيراً من فوائد الشرقيين ونقل الشرقيون كثيراً من عادات الغربيين وأخذ كل يزيد وطنه بسطة وحسناً في العمران.
وعندما انعكست الدورة الشرقية وتقهقر العلم وأخذت الجهالة تنتشر في الأقطار الشرقية اشتغلت الأمم الغربية بالعلم والصناعة وبذلوا فيهما نفيس الوقت والمال وعقدوا لهما الجمعيات وفتحوا المدارس وجلبوا موارد الصنعة والتجارة من جميع الأقطار تعظيماً للثروة فحييت أوطانهم حياة طيبة وخيمت عليها السعادة فكانت رجال المعارف أرواحاً في
هياكل مجامع الأمة تحرك قواها للسير خلف المدينة والاستعمار. وقد تعلم الغربي طريق الشرقي التي بها جمع هذه الجموع وشقها من جذوع أوطانها وأجناسها فأخذ يلقي العداوة بين الملوك والأمراء ويغري الرؤُوس على الشقاق والثورة ليمزّق ثوب المجتمع الشرقي بيد أبنائه ويحفظ لنفسه حق الوثبة عندما تضعف قوى الجار وتتخاذل جموع التخوم. فانتشرت الفتن وثارت الحروب الداخلية وكثر الثوّار وضاع الأمر وانتشر العيث والفساد فنزعت العروق إلى أصولها وتراجعت الوحدات الدينية إلى مماثليها وحيطت التخوم بالأمم المهاجمة ووقع الشرق في الهرج والمرج حتى قامت الدولة العثمانية فتداركت بعضاً ثم ضمت الكل وجمعت تحت سلطتها ما تمكنت منه في ذلك العصر المظلم والوقت الضيق وقامت تقابل الدول وحيدة وتماثلها قوة وعصبية وتجاريها استرجاعاً وفتوحاً.

الصفحة 31