كتاب إشارات الإعجاز

ومن الشعر:
والليل تجري الدراري في مجرته كالروض تطفو على نهر ازاهيره (1)
اعلم! ان في كل آية من هذه الآيات التمثيلية طبقاتٍ ومراتبَ وصوراً وأساليبَ متنوعة. كلٌ منها - في كلٍ منها - كفيل وضامن لطائفة من الحقائق. وكما انك اذا أخذت قوارير من فضة وزيّنتها بذوب الذهب، ثم نقشتها بجواهرَ، ثم صيّرتها ذوات نور (2) بإدراج "الكتريق" (3) ترى فيها طبقات حسن وانواعَ زينة؛ كذلك في كل من تلك الآيات من المقصد الأصليّ الى الأسلوب التمثيليّ قد شرعت اشارات ومُدّت رموز الى مقامات كأن أصل المقصد تدحرج على المراتب وأخذ من كلٍ لوناً وحصة حتى صارت تلك الكلمات من جوامع الكلمات بل من جمع الجوامع.
فصل ومقدمة
اعلم! ان المتكلم كما يفيد المعنى ثم يُقْنِع العقل بواسطة الدليل؛ كذلك يلقي الى الوجدان حسِّياتٍ بواسطة صور التمثيل فيحرك في القلب الميل أو النفرة ويهيئُه للقبول. فالكلام البليغ ما استفاد منه العقل والوجدان معاً، فكما يتداخل الى العقل يتقطر الى الوجدان أيضا. والمتكفل لهذين الوجهين التمثيلُ؛ اذ هو يتضمن قياساً وينعكس به في مرآة الممثل القانون المندمج في الممثل به. فكأنه دعوى مدلَّل. كما تقول في رئيس يكابد البلايا لراحة رعيته: (الجبل العالي يتحمّل مشاقّ الثلج والبَرَد، وتخضرّ من تحته الأودية) .
ثم ان أساس التمثيل هو التشبيه. ومن شأن التشبيه تحريك حسّ النفرة أو الرغبة أو الميلان أو الكراهية أو الحيرة أو الهيبة؛ فقد يكون للتعظيم أو التحقير أو الترغيب أو التنفير أو التشويه أو التزيين أو التلطيف الى آخره ... فبصورة الأسلوب يوقَظ الوجدان وينبَّه الحسُّ بميلٍ أو نفرة.
(1) قائله ابن النبيه المصرى في مدح الايوبيين توفي سنة 619هـ.
(2) ذوات انوار (ش) .
(3) الكهرباء.

الصفحة 117