كتاب إشارات الإعجاز
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمَْ) .
وجه النظم: اعلم! ان هذا المقام لكونه مقام الخوف والتخلية يناسب المقامات السابقة؛ فينظر بنظر الحيرة والدهشة الى مقام توصيف الربوبية بالجلال والجمال، وبنظر الالتجاء الى مقام العبودية في "نعبد"، وبنظر العجز الى مقام التوكل في "نستعين"، وبنظر التسلي الى رفيقه الدائمي أعني مقام الرجاء والتحلية، اذ اوّل ما يتولد في قلب من يرى أمراً هائلا حِسُّ الحيرة ثم ميلُ الفرار ثم التوكلُ عند العجز ثم التسلي بعد ذلك الامر.
ان قلت: ان الله عز وجل حكيم غني فما الحكمة في خلق الشر والقبح والضلالة في العالم؟
قيل لك: اعلم! ان الكمال والخير والحسن في الكائنات هي المقصودة بالذات وهي الكليات؛ وان الشر والقبح والنقصان جزئيات بالنسبة اليها قليلة تبعية مغمورة في الخلقة، خلقها خالقها منتشرة بين الحسن والكمال، لا لذاتها، بل لتكون مقدمة، وواحداً قياسياً، لظهور - بل لوجود - الحقائق النسبية للخير والكمال.
ان قلت: فما قيمة الحقائق النسبية حتى اُستُحسن لأجلها الشرّ الجزئي؟
قيل لك: ان الحقائق النسبية هي الروابط بين الكائنات.. وهي الخطوط المنسوج منها نظامها.. وهي الاشعة المنعكس منها وجود واحد لانواعها. وان الحقائق النسبية أزيدُ بألوفٍ من الحقائق الحقيقية؛ اذ الصفات الحقيقية لذاتٍ لو كانت سبعة كانت الحقائق النسبية سبعمائة. فالشر القليل يُغْتَفَر بل يُسْتَحْسَن لاجل الخير الكثير؛ لان في ترك الخير الكثير - لان فيه شراً قليلاً - شراً كثيراً. وفي نظر الحكمة اذا قابل الشر القليل شراً كثيراً صار الشر القليل حسناً بالغير، كما تقرر في الاصول في الزكاة والجهاد.
وما اشتهر من: "ان الاشياء انما تُعْرَف باضدادها" معناه: ان وجود الضد سبب لظهور ووجود الحقائق النسبية للشئ. مثلا: لو لم يوجد القبح ولم يتخلل بين الحسن لما تظاهر وجود الحسن بمراتبه الغير 1 المتناهية.
__________
1 يقول البغدادى: "لا تدخل الألف واللام على (غير) ؛ لان المقصود من ادخال (أل) على النكرة تخصيصها بشئ معين. فإذا قيل (الغير) اشتملت هذه اللفظة على ما لا يحصى، ولم تتعرف بـ (أل) كما انها لم تتعرف بالاضافة، فلم يكن لإدخال (أل) عليها من فائدة ".
وجاء في المصباح المنير، في مادة (غير) مانصه: "يكون وصفاً للنكرة، تقول: جاءنى رجل غيرك، وقوله تعالى: (غير المغضوب عليهم) انما وصف بها المعرفة، لأنها اشبهت المعرفة باضافتها الى المعرفة، فعوملت معاملتها. ومن هنا اجترأ بعضهم فأدخل عليها الألف واللام؛ لأنها لمّا شابهت المعرفة، باضافتها الى المعرفة، جاز ان يدخلها ما يعاقب الاضافة، وهو الالف واللام ...
وارتضى مؤتمر المجمع اللغوى، المنعقد بالقاهرة في دورته الخامسة والثلاثين، في شهر شباط (فبراير) 1969 الرأى القائل: "ان كلمة غير الواقعة بين متضادين تكتسب التعريف من المضاف اليه المعرفة، ويصح في هذه الصورة، التى تقع فيها بين متضادين، وليست مضافة، ان تقترن بـ (أل) ، فتستفيد التعريف ". (باختصار عن معجم الاخطاء الشائعة لمحمد العدنانى) .
الصفحة 35
336