كتاب ففروا إلى الله - القلموني

وخرج البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «واللَّه إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة». وخرجه النسائي وابن ماجه، ولفظهما: «إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه كل يوم مائة مرة».
قال اللَّه عز وجل: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131]، وقال حاكيًا عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم: 8]، وقال: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وقال: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: 37].
المعنى: أنه تعالى يحب من عباده أن يتقوه ويطيعوه، كما أنه يكره منهم أن يعصوه، ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشد من فرح من ضلت راحلته التي عليها طعامه وشرابه بفلاة من الأرض، وطلبها حتى أعيى وأيس منها، واستسلم للموت، وأيس من الحياة، ثم غلبته عينه فنام، فاستيقظ وهي قائمة عنده، وهذا أعلى ما يتصوره المخلوق من الفرح، هذا كله مع غناه عن طاعات عباده وتوباتهم، وإنه إنما يعود نفعها إليهم دونه، ولكن هذا من كمال جوده وإحسانه إلى عباده، ومحبته لنفعهم، ودفع الضرر عنهم، فهو يحب من عباده أن يعرفوه ويحبوه ويخافوه ويتقوه ويطيعوه ويتقربوا إليه، ويحب أن يعلموا أنه لا يغفر الذنوب غيره، وأنه قادر على مغفرة ذنوب عباده، كما في رواية عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر لهذا الحديث: «من علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة، ثم استغفرني، غفرت له ولا أبالي» (¬1).
وفي الصحيح عن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «واللَّه للَّه أرحم بعباده من الوالدة بولدها» (¬2). وتفكروا في قوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران: 135]، فإن فيه إشارة إلى أن المذنبين ليس لهم من يلجئون إليه، ويُعوِّلون عليه في مغفرة ذنوبهم غيره، وكذلك قوله في حق الثلاثة الذين خُلِّفوا: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]، فرتب عليهم على ظنهم أن لا ملجأ من اللَّه إلا إليه، فإن العبد إذا خاف من مخلوق، هرب منه، وفر إلى غيره، وأما من خاف من اللَّه، فما له من ملجأ يلجأ إليه، ولا مهرب يهرب إليه إلا
¬_________
(¬1) حسن. رواه الطبراني والحاكم عن ابن عباس. انظر «صحيح الجامع». ومعنى: (ولا أبالي) أي: ولا أهتم، كما في (ب - ف). (قل).
(¬2) متفق عليه.

الصفحة 25