كتاب ففروا إلى الله - القلموني

الكمال الذي يسمعون عنه والواقع الذي يعيشون فيه. ولكن هذا التصور خاطئ .. فإن الفاصل الذي بين الحق والباطل، إنما يتمثل في الفرق بين أدنى طرف من الباطل وأول درجة من درجات الحق، وفرق ما بينهما لفتة صغيرة وحركة بسيطة.
إن الحق الذي أوضحناه في الصفحات الماضية، ليس نهاية مستقلة تقبع في قمة السمو والكمال، ولكنه سلم ذو درجات متقاربة، تبدأ أولاها عند طرف الباطل الذي تعيشين فيه، وتقف الأخيرة عند نهاية الكمال الذي يشدك إليه تشريع اللَّه وحكمه. وإنما المطلوب منك - بعد أن تنبهت إلى الحق وآمنت به - أن تتحركي صاعدة في درجاته، لا أن تقفزي قفزة واحدة إلى نهايته! ..
إذا كنت لا تملكين من الطاقة والإرادة أو الظروف المساعدة ما تفرضين به على نفسك حجابًا سابغًا للجسم والوجه، فلتفرضي على نفسك ما دون ذلك مما تساعدك عليه الظروف والأحوال، وإذا كنت لا تجدين طاقة كافية لتغيير أي شيء من لباسك وهيئتك، مهما كانت منحرفة وبعيدة عن اللَّه عز وجل فلتفرضي على نفسك ما دون ذلك أيضًا، من أداء العبادات المفروضة، وتلاوة شيء من كتاب اللَّه بتدبر خلال كل صباح ومساء، وإذا كنت عاجزة عن الارتباط حتى بهذا القدر في سبيل الإصلاح فلتفرضي على نفسك ما دون ذلك، من استشعار خطورة الحال التي أنت فيها والالتجاء إلى اللَّه تعالى بقلب صادق واجف، تسألينه العون والقوة، فإن صدق الالتجاء إلى اللَّه ينبوع النصر والتوفيق. وما سار إنسان إلى الحق بادئًا بخطوة من هذه الخطا متجهًا إلى اللَّه بصدق وعزم، إلا وفقه اللَّه تعالى في السير إلى نهاية الطريق والوصول إلى مجامع ذلك الحق.
وإنما المصيبة كل المصيبة أن تعلمي الحق، وتؤمني به، ثم لا تتجهي إليه بخطوة ولا بعزم، كأن الأمر ليس مما يعنيك في شيء، أو كأن الذي شرع هذا الحق وأمر به لن تطولك يده، ولن يبلغ إليك بطشه وسلطانه. أو كأن الآخرة وما فيها أهون من أن يتخلى الإنسان في سبيلها عن شيء من أمانيه وأهوائه!.
مثل هذا الحال، يعتبر أعظم سبب لاستمطار غضب اللَّه تعالى والتعجيل بعقوبته. وعقوبة الدنيا هنا لا تتمثل في بلاء عاجل يحيق بالإنسان، وإنما تتمثل في انغلاق العقل، وقسوة القلب، فلا يؤثر في أحدهما تذكير ولا تخويف ولا تنبيه، مهما كانت الأدلة واضحة والنذر قريبة، حتى إذا جاءه الموت تخطفه وهو على هذا الحال، فينقلب إلى اللَّه تعالى، وقد تحول انغلاق عقله وقسوة قلبه إلى ندم يحرق الكبد في وقت لا ينفع فيه الندم ولا رجوع فيه إلى الوراء.

الصفحة 66