كتاب فيض القدير (اسم الجزء: 2)

1201 - (اعمل عمل من) وفي نسخة امرىء (يظن أن لا يموت أبدا واحذر حذر امرىء يخشى أن يموت غدا) أي قريبا جدا ولم يرد حقيقة الغد والمراد تقديم أمر الآخرة وأعمالها حذر الموت بالفوت على عمل الدنيا وتأخير أمر الدنيا كراهة الاشتغال بها على عمل الآخرة وأما ما فهمه البعض أن المراد اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ويكون المراد الحث على عمارة الدنيا لينتفع من يجيء بعد والحث على عمل الآخرة فغير مرضي لأن الغالب على أوامر الشارع ونواهيه الندب إلى الزهد في الدنيا والتقليل من متعلقاتها والوعيد على البناء وغيره وإنما مراده أن الإنسان إذا علم أنه يعيش أبدا قل حرصه وعلم أن ما يريده لن يفوته تحصيله بترك الحرص عليه والمبادرة إليه فإنه إن فاتني اليوم أدركته غدا فإني أعيش أبدا فقال النبي اعمل بعمل من يظن أنه يخلد فلا يحرص على العمل فيكون حثا على التقليل بطريق أنيق ولفظ رشيق ويكون أمره بعمل الآخرة على ظاهره فيجمع بالأمرين حالة واحدة وهو الزهد والتقلل لكن بلفظين مختلفين أفاده بعض المحققين لكن يعضد الأول خبر إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها وفيه تنبيه على أن من حق المؤمن أن لا يذهب عنه ولا يزال عن ذهنه أن عليه من الله عينا كالئة ورقيبا مهيمنا وأجلا قريبا حتى يكون في أوقات خلواته من ربه أهيب وأحسن احتشاما وأوفر تحفظا منه مع الملأ
(هق عن ابن عمرو) بن العاص ورواه عنه الديلمي أيضا ورمز لضعفه وذلك لأن فيه مجهولا وضعفا
1202 - (اعملوا) بظاهر ما أمرتم ولا تتكلوا على ما كتب لكم من خير وشر (فكل) أي كل من خلق (ميسر) أي مهيئ ومصروف (لما خلق له) أي لأمر خلق ذلك المرء له فلا يقدر البتة على عمل غيره فذو السعادة ميسر لعمل أهلها بحكم القدر الجاري عليه وإذا غلبت مادة الحكم واستحكمت في إنسان فإنما تيسر له عمل الخبث فكان مظهرا للأفعال الخبيثة التي هي عنوان الشقاء وحكم عكسه عكس حكمه
<تنبيه> قال الغزالي بين بهذا الخبر أن الخلق مجاري قدر الله ومحل أفعاله وإن كانوا هم أيضا من أفعاله لكن بعض أفعاله محل لبعض وقوله اعملوا وإن جرى على لسان الرسول فهو فعل من أفعاله تعالى وهو سبب لعلم الخلق بأن العلم نافع وعلمهم من أفعال الله وهو سبب لحركة الأعضاء وهي أيضا من أفعاله تعالى لكن بعض أفعاله مسبب للبعض أي الأول شرط للثاني كخلق الحياة شرط لخلق العلم والعلم للإرادة بمعنى أو لا يستعد لقبول العلم إلا ذو حياة ولا للإرادة إلا ذو علم فيكون بعض أفعاله سببا للبعض لا موجبا لغيره وهذا القول من الله سبب لوجود الاعتقاد والاعتقاد سبب للخوف والخوف سبب لترك الشهوات والتجافي عن دار الغرور وهو سبب الوصول إلى جوار الرحمن وهو مسبب الأسباب ومرتبها فمن سبق له في الأزل السعادة يسر له الأسباب التي تقوده بسلاسلها إلى الجنة ومن لا يبعد عن سماع كلام الله ورسوله والعلماء فإذا لم يسمع لم يعلم وإذا لم يعلم لم يخف وإذا لم يخف لم يترك الركون إلى الدنيا وإذا لم يتركه صار من حزب الشيطان {وإن جهنم لموعدهم أجمعين}
(طب عن ابن عباس وعن عمران بن حصين) قال قال رجل يا رسول الله أنعمل فيما جرت به المقادير وجفت به القلم أو شيء نستأنفه قال بل بما جرت به المقادير وجف به القلم قال ففيم العمل قال اعملوا إلخ قال الهيثمي رجاله تقات انتهى ومن ثم رمز المصنف لصحته وظاهر -[13]- عدوله للطبراني واقتصاره عليه أنه لا يوجد مخرجا لأحد من السنة والأمر بخلافه فقد رواه الشيخان من حديث علي قال كنا في جنازة في بقيع الفرقد فأتانا المصطفى صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكث وجعل ينكث بمخصرته ثم قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا فقال اعملوا كل ميسر لما خلق له قال الطيبي: قوله مقعده أي محل قعوده وكنى عن كونه من أهل الجنة أو النار باستقراره فيها والواو المتوسطة بينهما لا يمكن أن تجري على ظاهرها فإن ما النافية ومن الاستغراقية يقتضيان أن يكون لكل أحد مقعد من النار ومقعد من الجنة وإن ورد في حديث آخر هذا المعنى لأن التفصيل الآتي يأبى حمله على ذلك فيجب أن تكون الواو بمعنى أو قال: وقوله أفلا نتكل أي أفلا نعتمد على ما كتب لنا في الأزل ونترك العمل يعني إذا سبق القضاء لكل واحد منا بجنة أو نار فأي فائدة في السعي فإنه لا يرد القضاء والقدر فأجاب بقوله اعملوا وهو من أسلوب الحكيم منعهم عن الاتكال والترك وأمرهم بامتثال ما يجب على العبد من امتثال أمر ربه وعبوديته عاجلا وتفويض الأمر إليه آجلا يعني أنتم عبيد ولابد لكم من العبودية بما أمرتم وإياكم والتصرف في الأمور الإلهية لآية {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} فلا تجعلوا العبادة وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار بل هي أمارات وعلامات ولا بد في الإيجاب من لطف الله أو خذلانه

الصفحة 12