2565 - (إنما أنا بشر) أي مخلوق يجري علي ما يجري على الناس من السهو (أنسى) بفتح الهمزة وتخفيف المهملة وقيل بضم الهمزة وشد المهملة والنسيان غفلة القلب عن الشيء (كما تنسون) قاله لما زاد أو نقص في الصلاة وقيل له أو زيد فيها؟ فذكره قال ابن القيم: كان سهوه في الصلاة من إتمام الله نعمته على عبيده وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما شرعه عند السهو فعلم منه جواز السهو على الأنبياء في الأحكام لكن يعلمهم الله به بعد وقال في الديباج: استدل به الجمهور على جواز النسيان عليه في الأفعال البلاغية والعبادات ومنعه طائفة وتأولوا الحديث وعلى الأول قال الأكثر شرطه تنبهه فورا متصلا بالحادثة وجوز قوم تأخيره مدة حياته واختاره إمام الحرمين أما الأقوال البلاغية فيستحيل السهو فيها إجماعا وأما الأمور العادية والدنيوية فالأصح جواز السهو في الأفعال لا الأقوال (فإذا نسي أحدكم) في صلاته (فليسجد) ندبا هبه بزيادة أو نقص أو بهما (سجدتين) وإن تكرر السهو مرات (وهو جالس) في صلاته وما قيل إن اقتصاره على سجود السهو يقتضي أن سهوه كان بزيادة إذ لو كان بنقص لتداركه منع بأن ليس كل نقص يجب تداركه بل ذاك في الواجب لا الأبعاض ثم إن آخر الخبر يدل على أن سجود السهو قبل السلام وأوله بعكسه والخلاف معروف
(حم هـ عن ابن مسعود) ظاهر كلام المصنف أن هذا مما لم يتعرض له أحد الشيخين لتخريجه والأمر بخلافه بل رواه الشيخان بما يفيد معناه بزيادة ابن مسعود أيضا ولفظهما إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني وإذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم يسلم ثم ليسجد سجدتين اه
2566 - (إنما أنا بشر) أي بالنسبة إلى عدم الاطلاع على بواطن الخصوم وبدأ به تنبيها على جواز أن لا يطابق حكمة الواقع لأنه لبشر لا يعلم الغيوب ولا يطلع على ما في النفوس ولو شاء الله لأطلعه على ما فيها ليحكم باليقين لكن لما أمرت أمته بالإقتداء به أجرى أحكامه على الظاهر والبشر الخلق يتناول الواحد والجمع (وإنكم تختصمون إلي) فيما بينكم ثم تردونه إلي ولا أعلم باطن الأمر (فلعل) وفي رواية بالواو (بعضكم) المصدر خبر لعل من قبيل رجل عدل أي كائن أو إن زائدة أو المضاف محذوف أي لعل وصف بعضكم (أن يكون) أبلغ كما في رواية البخاري أي أكثر بلاغة وإيضاحا للحجة وفي رواية له أيضا (ألحن) كأفعل من اللحن بفتح الحاء الفطانة أي أبلغ وأفصح وأعلم في تقرير مقصوده وأفطن ببيان دليله وأقدر على البرهنة على دفع دعوى خصمه بحيث يظن أن الحق معه فهو كاذب ويحتمل كونه من اللحن وهو الصرف عن الصواب أي يكون أعجز عن الإعراب (بحجته من بعض) آخر فيغلب خصمه (فأقضي) فأحكم له أي للبعض الأول على الأول وللثاني على الثاني وإن كان الواقع أن الحق لخصمه لكنه لم يفطن لحجته ولم يقدر على معارضته لكن إنما أقضي (على نحو) بالتنوين (ما أسمع) لبناء أحكام الشريعة على الظاهر وغلبة الظن ومن فيهما بمعنى لأجل أو بمعنى على أن أقضي على الظاهر من كلامه وتمسك بقوله أسمع من قال إن الحاكم لا يقضي بعلمه لإخباره بأنه لا يحكم إلا إذا -[565]- سمع في مجلس حكمه وبه قال أحمد وكذا مالك في المشهور عنه وقال الشافعي يقضى به وقال أبو حنيفة في المال فقط (فمن قضيت له) بحسب الظاهر (بحق مسلم) ذكر المسلم ليكون أهول على المحكوم له لأن وعيد غيره معلوم عند كل أحد فذكره المسلم تنبيها على أنه في حقه أشد وإن كان الذمي والمعاهد كذلك (فإنما هي) أي القصة أو الحكومة (1) أو الحالة (قطعة من النار) أي مآلها إلى النار أو هو تمثيل يفهم منه شدة التعذيب على من يتعاطاه فهو من مجاز التشبيه شبه ما يقضى به ظاهرا بقطعة من نار نحو {إنما يأكلون في بطونهم نارا} قال السبكي: وهذه قضية شرطية لا يستدعي وجودها بل معناه أن ذا جائز ولم يثبت أنه حكم بحكم فبان خلافه (فليأخذها أو ليتركها) تهديد لا تخيير على وازن {فمن شاء فليؤمن} ذكره النووي واعترض بأنه إن أريد به أن كلا من الصنفين للتهديد فممنوع فإن قوله أو ليتركها للوجوب وهو خطاب للمقضى له ومعناه إن كان محقا فليأخذ أو مبطلا فليترك فالحكم لا ينقل الأصل عما كان عليه ولم يبين له ما هو الحق بالحق دفعا لهتك أسرار الأشرار وليقتدي به في الحكم ببينة أو يمين وما تقرر في معنى هذا الحديث هو ما نقحه بعض المتأخرين أخذا من قول القاضي إنما صدر بقوله " إنما أنا بشر " تأسيسا لجواز أن لا يطابق حكمه الواقع لأنه لا يعلم الغيب ولا يطلع على ما في الضمائر وإنما يحكم بما سمعه من المترافعين فلعل أحدهما أقدر على تقرير حجته فيقررها على وجه يظن أن الحق معه فيحكم له وفي الواقع لخصمه لكن لم يفطن لحقه ولم يقدر على معارضته وتمهيدا لعذره فيما عسى أن يصدر عنه من أمثال ذلك ولو نادرا من قبيل الخطأ في الحكم إذ الحاكم مأمور بالحكم بالظاهر لا بما في نفس الأمر فلو أقام المبطل بينة زورا فظن الحاكم عدالتها فقضى فهو محق في الحكم وإن كان المحكوم به غير ثابت انتهى وقال القرطبي: قد أطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة على بواطن كل من يتخاصم إليه فيحكم بحق ذلك لكن لما كان ذلك من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم لم يجعل الله ذلك طريقا عاما ولا قاعدة كلية للأنبياء ولا لغيرهم لاستمرار العادة بأن ذلك لا يقع لهم وإن وقع فنادر وتلك سنة الله في خلقه {ولن تجد لسنة الله تبديلا} قال: وقد شاهدت بعض المحرفين وسمعت منهم أنهم يعرضون عن القواعد الشرعية ويحكمون بالخواطر القلبية ويقول الشاهد المتصل بي أعدل من الشاهد المنفصل عني وهذه مخرقة أبرزتها زندقة يقتل صاحبها قطعا وهذا خير البشر يقول في مثل هذا المواطن إنما أنا بشر معترفا بالقصور عن إدراك المغيبات وعاملا بما نصبه الله له من اعتبار الإيمان والبينات. وفي الحديث شمول للأموال والعقود والفسوخ فحكم الحاكم ينفذ ظاهرا وباطنا فيما الباطن فيه كالظاهر وظاهرا فقط فيما يترتب على أصل كاذب فلو حكم بشاهدي زور بظاهر العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطنا فهو حجة على الحنفية في قولهم ينفذ باطنا أيضا حتى لو حكم بنكاح شاهدي زور حل له وطؤها عندهم وأجابوا عن الخير بما فيه تعسف وتكلف
(مالك) في الموطأ (حم ق ع عن أم سلمة) قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم خصومه بباب حجرته فخرج إليهم فذكره
_________
(1) الكلمة غير واضحة في الأصل بين " الحكومة " أو " الحرمة " وقد اخترنا " الحكومة " لمناسبتها للمعنى. دار الحديث