كتاب فيض القدير (اسم الجزء: 4)

4374 - (راصوا الصفوف) أي تلاصقوا وضاموا أكتافكم بعضها إلى بعض حتى لا يكون بينكم فرجة تسع واقفا أو يلج فيها مار (فإن الشيطان يقوم في الخلل) الذي بين الصفوف ليشوش صلاتكم ويقطعها عليكم. قال القاضي: والرص ضم الشيء إلى الشيء. قال الله تعالى: {كأنهم بنيان مرصوص} فالتراص في الصفوف هو التداني والتقارب يقال رص البناء إذا ضم بعضه إلى بعض
(حم عن أنس) قال الهيثمي: رجاله موثقون اه. ومن ثم رمز المصنف لصحته
4375 - (راصوا صفوفكم) أي صلوها بتواصل المناكب (وقاربوا بينها) بحيث لا يسع بين كل صفين صف آخر حتى لا يقدر الشيطان أن يمر بين أيديكم ويصير تقارب أشباحكم سببا لتعاضد أرواحكم (وحاذوا بالأعناق) (1) بأن يكون عنق كل منكم على سمت عنق الآخر يقال حذوت النعل بالنعل إذا حاذيته به وحذاء الشيء إزاؤه يعني لا يرتفع بعضكم على بعض ولا عبرة بالأعناق أنفسها إذ ليس على الطويل ولا له أن ينحني حتى يحاذى عنقه عنق القصير الذي بجنبه ذكره القاضي. وظاهر صنيع المصنف أن هذا هو الحديث بتمامه والأمر بخلافه بل بقيته: فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خلال الصف كأنها الحذف بحاء مهملة وذال معجمة ووهم من قال بمعجمتين غنم سود صغار فكأن الشيطان يتصغر حتى يدخل في تضاعيف الصف قال الزمخشري: سميت به لأنها محذوفة عن المقدار الطويل
(ن عن أنس) رمز المصنف لصحته وظاهر اقتصاره على النسائي أنه تفرد بإخراجه عن الستة وإلا لذكره كعادته وليس كذلك فقد رواه أبو داود في الصلاة باللفظ المزبور
_________
(1) [وبتعيينه صلى الله عليه وسلم الأعناق لا يبقى شك في أن معنى " المحاذاة " المراد في أحاديث رص الصفوف إنما هو كما فسره العلماء ومنهم الإمام المناوي في شرحه المذكور أعلاه: جعلها على سمت وخط واحد وليس المراد " إلصاقها " ببعض إذ يستحيل ذلك بالأعناق
هذا ومع أنه لم يرد الأمر لا من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من الخلفاء الراشدين ولا من الأئمة المجتهدين " بإلصاق " الأقدام فإنا نرى من يأمر الناس بذلك عند تسوية الصفوف
ورغم حسن نية من يتبع أدعياء العلم هؤلاء فلا يخفى ما في عملهم من المساوئ بسبب عدم فهمهم لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسبب اعتمادهم على ذلك الفهم الخاطئ دون الرجوع إلى شروح الحديث ولا إلى أقوال الصحابة والأئمة المجتهدين
فمن تلك المساوئ الاشتغال عن تطبيق السنة المذكورة أعلاه أي المحاذاة بالمناكب والأعناق
ومنها أنهم ينحنون وبذلك يتعذر تطبيق تلك السنة على غيرهم كذلك
ومنها أن المبالغين منهم يتعدون أثناء الصلاة فلا يزالون يمدمدون أقدامهم ليلصقونها بأقدام رفاقهم في الصف حتى تصل أقدامهم إلى مكان جارهم أو تحت كتفه أو أكثر ولا يخفى ما في ذلك من الانشغال عن تدبر صلاتهم وتشويشهم على الغير
ومنها أن وقفتهم لا تخلو من تفريج القدمين وهو تصنع وتفعل مخالف للسنة والفطرة حيث ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان " كما وقف كبر؟ ؟ " أي بدون تفعل وتصنع في جميع ما يتعلق بوقفته
ومنها أن الوقفة مع تفريج القدمين إنما هي وقفة التكبر والتحدي وليست وقفة العبد المتذلل لربه
وقد أجري البحث بواسطة برنامج المحدث في الكتب التالية ولم يعثر على الأمر بالمحاذاة بين الأقدام: الجامع الصغير وزيادة الجامع الصغير ومجمع الزوائد. وإنما وجدت كلمة " حاذوا " في مثل الحديث 1366: " أقيموا الصفوف وحاذوا بالمناكب وأنصتوا. . . " والحديث 1367: " أقيموا الصفوف فإنما تصفون بصفوف الملائكة وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل. . . " ولم يرد في أيها الأمر بالمحاذاة بين الأقدام وإن فرض وجود الأمر " بالمحاذاة " بين " الأقدام " فتكون كالمحاذاة بين الأعناق المذكورة في هذا الحديث أي جعلها على سمت وخط واحد كما تم تفصيله أعلاه
فنسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم واتباع السنة كما وردت غير مبدلين ولا مغيرين. آمين. دار الحديث]
4376 - (رأى عيسى ابن مريم رجلا يسرق) لم يسم الرجل ولا المسروق منه ولا المسروق (فقال له أسرقت؟) بهمزة الاستفهام وروي بدونها (قال كلا) حرف ردع أي ليس الأمر كما قلت ثم أكد ذلك بالحلف بقوله (والذي) وفي -[6]- رواية لا والذي (لا إله إلا هو فقال عيسى آمنت بالله) أي صدقت من حلف بالله إذ المؤمن الكامل لا يحلف بالله كاذبا (وكذبت عيني) بالتشديد على التثنية ولبعضهم بالإفراد أي كذبت ما ظهر لي من سرقة لاحتمال أنه أخذ بإذن صاحبه أو لأنه بان له فيه حق وفي رواية للبخاري وكذبت بتخفيفها. قال بعضهم: والتخفيف هو الظاهر بدليل رواية مسلم وكذبت نفسي وهذا خرج مخرج المبالغة في تصديق الحالف لا أنه كذب نفسه حقيقة أو أراد صدقه في الحكم لأنه لم يحكم بعلمه وإلا فالمشاهدة أعلى اليقين فكيف يكذب عينه ويصدق قول المدعي ويحتمل أنه رآه مد يده إلى الشيء فظن أنه تناوله فلما حلف رجع إلى ظنه ذكره جمع وقال القرطبي: ظاهر قول عيسى له سرقت أنه خبر عما فعل من السرقة وكأنه حقق السرقة عليه لكونه رآه أخذ مالا لغيره ويحتمل أنه استفهام حذفت همزته وحذفها قليل وقول الرجل كلا أي لا نفي ثم أكده باليمين وقول عيسى آمنت بالله وكذبت نفسي أي صدقت من حلف وكذبت ما ظهر من ظاهر السرقة فيحتمل أن يكون أخذ ما له فيه حق أو يكون لصاحبه إذن أو أخذه لتغلبه واستدل به على درء الحد بالشبهة ومنع القضاء بالعلم والراجح عند المالكية والحنابلة منعه مطلقا وعند الشافعي جوازه إلا في الحدود
(حم ق ن هـ عن أبي هريرة)

الصفحة 5