كتاب الفقيه والمتفقه - الخطيب البغدادي (اسم الجزء: 2)

أنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْوَاعِظُ , نا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَرُوذِيُّ , نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ , نا مُوسَى بْنُ عَامِرِ بْنِ خُرَيْمٍ , نا الْوَلِيدُ يَعْنِي: ابْنَ مُسْلِمٍ , نا بُكَيْرُ بْنُ مَعْرُوفٍ , نا مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ , عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ جَدِّهِ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ , قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلْ تَدْرِي أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ , قَالَ: «إِذَا اخْتَلَفُوا وَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ أَبْصَرَهُمْ بِالْحَقِّ , وَإِنْ كَانَ فِي عَمَلِهِ تَقْصِيرٌ , وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى إِسْتِهِ زَحْفًا» فَقَدْ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ يُصِيبُهُ بِالْعِلْمِ بَعْضُ أَهْلِ الِاخْتِلَافِ , وَمَنَعَ أَنْ يُصِيبَهُ جَمِيعُهُمْ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ , مِثْلِ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ , وَتَصْحِيحٍ وَإِفْسَادٍ , وَإِيجَابٍ وَإِسْقَاطٍ , فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلَانِ فَاسِدَيْنِ , أَوْ صَحِيحَيْنِ , أَوْ أَحَدُهُمَا فَاسِدًا , وَالْآخَرُ صَحِيحًا , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا فَاسِدَيْنِ , لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى الْخَطَأِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا صَحِيحَيْنِ , لِأَنَّهُمَا مُتَضَادَّانِ , فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ⦗١٢٠⦘ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ حَرَامًا حَلَالًا , وَوَاجِبًا غَيْرَ وَاجِبٍ , وَصَحِيحًا بَاطِلًا , وَإِذَا بَطَلَ هَذَانِ الْقِسْمَانِ , ثَبَتَ أَنَّ أَحَدَهُمَا صَحِيحٌ , وَالْآخَرَ فَاسِدٌ , فَإِنْ قَالَ الْمُخَالِفُ: هُمَا صَحِيحَانِ وَلَا يُؤَدِّي إِلَى التَّضَادِ , وَلَا تَسْتَحِيلُ صِحَّتُهُمَا , إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَسْتَحِيلُ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدِ , وَأَمَّا عَلَى شَخْصَيْنِ أَوْ فَرِيقَيْنٍ , فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَسْتَحِيلُ كَمَا وَرَدَ الشَّرْعُ , بِإِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَى الطَّاهِرِ وَإِسْقَاطِهَا عَنِ الْحَائِضِ , وَوُجُوبِ إِتْمَامِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُقِيمِ , وَالرُّخْصَةِ فِي الْقَصْرِ لِلْمُسَافِرِوَعِنْدَنَا أُمُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ يَلْزَمُهُ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ , فَيَحْرُمُ النَّبِيذُ عَلَى مَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى تَحْرِيمِهِ , وَيَحِلُّ لِمَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى تَحْلِيلِهِ , وَتَجِبُ النِّيَّةُ لِلْوضُوءِ عَلَى مَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى وجُوبِهَا وَتَسْقُطُ عَمَّنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى صِحَّتِهِ , وَيَفْسُدُ فِي حَقِّ مَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَى فَسَادِهِ , وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ , لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَضَادٌّ وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا خَطَأٌ: لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ إِذَا كَانَتْ عَامَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ أَنْ يَكُونَ مَدْلُولُهَا خَاصًّا , وَالدَّلَالَةُ الدَّالَّةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَامَّةٌ فِي الْجَمِيعِ , فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا خَاصًّا , وَإِذَا كَانَتِ الْأَحْكَامُ عَامَّةً ثَبَتَ التَّضَادُّ , وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مَنْ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ , إِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى شَيْءٍ , وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى ضِدِّ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ , أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهِمَا , كَالَّذِي تُلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ , لَمَّا كَانَتِ الْحُقُوقُ الثَّلَاثَةُ مُتَسَاوِيَةً فِي كَوْنِهَا مِمَّا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بِهَا , وَالْكُلُّ صَوَابٌ , كَانَ مُخَيَّرًا فِيهَا , فَلَمَّا لَزِمَ الْمُجْتَهِدَ أَنْ يَعْمَلَ بِمَا يُؤَدِّي ⦗١٢١⦘ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ دُونَ مَا خَالَفَهُ مِنَ اجْتِهَادِ غَيْرِهِ , ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ فِي وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَدَلِيلٌ آخَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ لَيْسَ بِمُصِيبٍ , وَهُوَ أَنَّا وَجَدْنَا أَهْلَ الْعِلْمِ فِي كُلِّ عَصْرٍ يَتَنَاظَرُونَ وَيَتَبَاحَثُونَ , وَيَحْتَجُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ , وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُصِيبًا , كَانَتِ الْمُنَاظَرَةُ خَطَأً وَلَغْوًا , لَا فَائِدَةَ فِيهَا فَإِنْ قَالَ الْمُخَالِفُ: إِنَّمَا يُنَاظِرُ أَحَدٍ الْخَصْمَيْنِ الْآخَرَ , حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ مَا أَدَّى اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ , فَيَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي رُجُوعِهِ مِنْ حَقٍّ إِلَى حَقٍّ , وَكَوْنُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ وَانْتِقَالُهُ إِلَى ظَنٍّ آخَرَ سَوَاءٌ , لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا , وَتَحَمُّلُ التَّعَبِ وَالْكُلْفَةِ وَالتَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْعُقَلَاءِ , وَقَدْ وَجَدْنَا الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةً عَلَى حُسْنِ الْمُنَاظَرَةِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ , وَعَقْدِ الْمَجَالِسِ بِسَبِبِهَا , فَسَقَطَ مَا قَالَهُ وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا احْتُجَّ بِهِ مِنْ إِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ , فَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَقُلْتَ هَذَا نَصًّا أَوُ اسْتِدْلَالًا؟ فَإِنْ قَالَ: نَصًّا لَمْ يَجِدْ إِلَيْهِ طَرِيقًا , لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ لِصَاحِبِهِ: أَقْرَرْتُكَ عَلَى خِلَافِكَ , وَأَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَعْمَلَ بِهِ وَسَوُّغْتُ لِلْعَامَّةِ أَنْ يُقَلِّدُوكَ وَإِنْ قَالَ: اسْتِدْلَالًا طُولِبَ بِهِ، فَإِنْ قَالَ: لَوْ كَانَ الْمُخَالِفُ مُخْطِئًا , لَقَاتَلُوهُ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ قِتَالٌ , لِأَنَّ الْخَاطِئَ فِيهِ مَعْذُورٌ , وَلَهُ عَلَى قَصْدٍ الصَّوَابِ أَجْرٌ , ⦗١٢٢⦘ وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ , بِذَلِكَ كَمَا وَرَدَ بِالْعَفْوِ عَنِ النَّاسِي , فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ قِتَالُهُ وَلَا تَأْثِيمُهُ فَإِنْ قَالَ: لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ بَعْضَهُمَ خَطَّأَ بَعْضًا , وَلَوْ كَانَ أَحَدٍ الْقَوْلَيْنِ خَطَأً وَالْآخَرُ صَوَبًا لَوَجَبَ أَنْ يُخَطِّئَ مَنْ أَصَابَ الْحَقَّ مَنْ لَمْ يُصِبْهُ , فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُخَطِّئْهُ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ

الصفحة 119