كتاب الفقيه والمتفقه - الخطيب البغدادي (اسم الجزء: 2)

أنا أَبُو سَعِيدٍ: الْخَصِيبُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ قَتَادَةَ الْمُعَدِّلُ بِأَصْبَهَانَ , نا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُقْرِئُ , قَالَ: أَنْشَدَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الرَّمْلِيُّ , لِمَنْصُورِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْفَقِيهِ الْمِصْرِيِّ: «
[البحر الرمل]
قُلْتُ لِلْمُعْجَبِ لَمَّا ... قَالَ مِثْلِي لَا يُرَاجَعْ
يَا قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْمَخْرَجِ ... لِمَ لَا تَتَوَاضَعْ»
وَإِذَا وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ فِي أَوَّلِ كَلَامِ الْخَصْمِ فَلَا يَعْجَلْ بِالْحُكْمِ بِهِ فَرُبَّمَا كَانَ فِي آخِرِهِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْغَرَضَ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ إِلَى أَنْ يَنْقَضِيَ الْكَلَامُ , وَبِهَذَا أَدَّبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: ١١٤] وَيَكُونُ نُطُقُهُ بِعِلْمٍ , وَإِنْصَاتُهُ بِحِلْمٍ , وَلَا يَعْجَلُ إِلَى جَوَابٍ , وَلَا يَهْجُمُ عَلَى سُؤَالٍ , وَيَحْفَظُ لِسَانَهُ مِنْ إِطْلَاقِهِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ , وَمَنْ مُنَاظَرَتِهِ فِيمَا لَا يَفْهَمُهُ فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَخْرَجَهُ ذَلِكَ إِلَى الْخَجَلِ وَالِانْقِطَاعِ , فَكَانَ فِيهِ نَقْصُهُ وَسُقُوطُ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ مَنْ كَانَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ , وَيُحْرِزُهُ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْعَقْلِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ: عَيِيٌّ صَامِتٌ خَيْرٌ مِنْ غَبِيٍّ نَاطِقٍ
أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الطَّاهِرِيُّ , أنا أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْجَوْهَرِيُّ , نا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدِّمَشْقِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ , حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَّامٍ ⦗٦٠⦘ قَالَ , كَانَ شَابٌّ يَجْلِسُ إِلَى الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ , فَأَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ صَمْتِهِ , إِلَى أَنْ قَالَ لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا أَبَا بَحْرٍ أَيَسُرُّكُ أَنَّكَ عَلَى شُرْفَةٍ مِنْ شَرَفِ الْمَسْجِدِ , وَأَنَّ لَكَ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ؟ فَقَالَ لَهُ الْأَحْنَفُ: «يَا ابْنَ أَخِي , وَاللَّهِ إِنَّ الْمِائَةَ الْأَلْفِ الدِّرْهَمَ لَمَحْرُوصٌ عَلَيْهَا , وَلَكِنِّي قَدْ كَبِرْتُ وَمَا أَقْوَى عَلَى الْقِيَامِ عَلَى هَذِهِ الشُّرْفَةِ» , وَقَامَ الْفَتَى , فَلَمَّا وَلَّى , قَالَ الْأَحْنَفُ: «
[البحر الطويل]
وَكَائِنٌ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجَبٌ ... زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ
لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ , وَنِصْفُ فُؤَادِهِ ... فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ»

الصفحة 59