كتاب فتح الباري لابن رجب (اسم الجزء: 7)

هذا الحديث، أسنده البخاري من طريق سفيان الثوري، عن عبد الملك بن
عميرٍ، عن ورادٍ.
وعَّلقه عن شعبة بإالافضل سنادين:
أحدهما: عن عبد الملك –أيضاً - بهذا الإسناد.
والثاني: عن الحكم، عن القاسم بن مخيمرة، عن ورادٍ.
رواية شعبة لهذا الحديث غريبةٌ لم تخرج في شيءٍ من الكتب الستة، ولا في ((مسند الإمام أحمد)) .
وخرّجه مسلمٌ من طريق عبدة بن أبي لبابة والمسيب بن رافعٍ وغيرهما، عن ورادٍ.
وخرّجه البخاري في موضعٍ آخر من رواية المسيب، وفي روايته: ((بعد
السلام)) .
وخرّجه الإمام أحمد والنسائي من طريق مغيرة، عن الشعبي، عن ورادٍ، أن المغيرة كتب إلى معاوية: سمعت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول عند انصرافه من الصلاة: ((لا إله إلا الله، وحده لا سريك له، له المللك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) –ثلاث مراتٍ.
وهذه زيادةٌ غريبةٌ.
وقد روي في الحديث زيادة: ((بيده الخير)) .
خرجها الإسماعيلي من طريق مسعرٍ، عن زياد بن علاقة، عن ورادٍ.
وروي فيه –أيضاً - زيادة: ((يحيى ويميت)) .
ذكرها الترمذي في ((كتابه)) –تعليقاً، ولم يذكر رواتها.
وقد خَّرجه البزار بهذه الزيادة من رواية ابن علاقة، عن عبد الله بن محمد بن
عقيلٍ، عن جابرٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل حديث المغيرة، بهذه الزيادة.
وفي اسنادها ضعفٌ.
وخرّجه –أيضاً – من حديث ابن عباسٍ، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه زيادة: ((بيده الخير)) .
وفي إسنادها ضعفٌ.
وخرّجه ابن عدي، وزاد فيه: ((يحيى ويميت)) .
وقال: هو غير محفوظٍ.
وخَّرجه أبو مسلم الكجي في ((سننه)) من حديث أبان بن أبي عياشٍ، عن أبي الجوزاء، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه: ((يحيي ويميت، بيده الخير)) .
وأبانٌ، متروكٌ.
وخرج النسائي وابن حبان في ((صحيحه)) والحاكم من حديث كعب الأحبار، عن صهيب، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول عند انصرافه من الصلاة: ((اللهم، أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي، اللهم، اني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ [ ... ] بعفوك من نقمتك، وأعوذ بك منك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) .
وفي إسناده اختلافٌ.
وخرج مسلمٌ من حديث عائشة، قالت: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقعد إلا مقدار ما يقول: ((اللهم، أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام)) .
وفي رواية له – أيضاً -: ((يا ذا الجلال والإكرام)) .
وخرج –أيضاً - من حديث ثوبان، قال: كان النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر ثلاث مراتٍ، ثم قال: ((اللهم، أنت السلام، ومنك السلام، تبارك ذا الجلال والإكرام)) . [ ... ] ، ((يا ذا الجلال والإكرام)) .
وفي الذكر عقب الصلوات المكتوبات أحاديث أخر.
وجمهور أهل العلم على استحبابه، وقد روي عن علي وابن عباسٍ وابن الزبير وغيرهم، وهو قول عطاءٍ والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم.
وخالف فيه طائفةٌ قليلةٌ من الكوفيين، وقد تقدم عن عبيدة السلماني، أنه عد التكبير عقب الصلاة من البدع، ولعله أراد بإنكاره على مصعبٍ، أنه كان يقوله مستقبل القبلة قبل أن ينحرف ويجهر، كذلك هو في ((كتاب عبد الرزاق)) ، وإذا صحت السنة بشيءٍ وعمل بها الصحابة، فلا تعدل عنها.
واستحب –أيضاً - أصحابنا وأصحاب الشافعي الدعاء عقب الصلوات، وذكره بعض الشافعية اتفاقاً.
واستدلوا بحديث أبي أمامة، قال: قيل لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)) .
خرّجه الإمام أحمد والترمذي، وحَّسنه.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث معاذٍ، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: ((لا تدَعن دبر كل صلاةٍ تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) .
وقال طائفةٌ من أصحابنا ومن الشافعية: يدعو الإمام للمأمومين عقب صلاة الفجر والعصر؛ لأنه لا تنفل بعدهما.
فظاهر كلامهم: أنه يجهر به، ويؤمنون عليه، وفي ذلك نظرٌ.
وقد ذكرنا فيما تقدم حديث دعاء النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقب الصلاة جهراً، وأنه لا يصح، ولم يصح في ذلك شيءٌ عن السلف.
والمنقول عن الإمام أحمد أنه كان يجهر ببعض الذكر عقب الصلاة، ثم يسر بالباقي، ويعقد التسبيح والتكبير والتحميد سراً، ويدعو سراً.
ومن الفقهاء من يستحب للإمام الدعاء للمأمومين عقب كل صلاة، وليس في ذلك سنةٌ ولا أثرٌ يتبع. والله أعلم.
وفي بعض نسخ البخاري:
وقال الحسن: الجد غنىً.
وهذا تفسير لقوله: ((ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ، والجد –بفتح الجيم – المراد به في هذا الحديث: الغنى، والمعنى: لا ينفع ذا الغنى منك غناه.
وهذا كقوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] ، وقوله: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ} [الشعراء:88] .
وقدروي تفسير الجد بذلك مرفوعاً:
ففي ((سنن ابن ماجه)) ، عن أبي جحيفة، قالَ: ذكرت الجدود عندَ رسول الله ... - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الصَّلاة، فقالَ رجلٌ: جد فلانٌ في الخيل. وقال آخر: جد فلان في الابل، فقالَ آخر: جد فلانٌ في الغنم، وقال آخر: جد فلان في الرقيق، فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته، ورفع رأسه من آخر الركعة، قالَ: ((اللَّهُمَّ، ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللَّهُمَّ، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدَّ منك الجدّ)) ، وطول رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صوته بالجد؛ ليعلم أنه ليس كما يقولون.
* * *
156 -
باب
يستقبل الإمام الناس إذا سلم
فيه ثلاثة أحاديث:
الأول:
845 -
حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا جرير بن حازم: ثنا أبو رجاءٍ، عن سمرة بن جندبٍ، قال: كان رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى صلاةً أقبل علينا بوجهه.
هذا أول حديثٍ طويلٍ، ساقه بتمامه في ((الجنائز)) ومواضع أخر وفيه: دليلٌ على أن عادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الاقبال على الناس بوجهه بعد الصلاة.
الحديث الثاني:
846 -
حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالكِ، عن صالح بن كيسان، عن
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زيد ابن خالد الجهني، أنه قال: صلى لنا رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف أقبل على الناس، فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافرٌ)) - الحديث.
وسيأتي بتمامه في ((الاستسقاء)) –إن شاء الله تعالى.
والمقصود منه هاهنا: إقباله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد انصرافه من صلاة الصبح، والمعنى: بعد فراغه منها.
الحديث الثالث:
847 -
ثنا عبد الله بن منيرٍ: سمع يزيد: أنا حميدٌ، عن أنسٍ، قال: أخر
رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة ذات ليلةٍ إلى شطر الليل، ثم خرج علينا، فلمَّا صلى أقبل علينا بوجهه، فقال: ((إن الناس قد صلوا ورقدوا، وإنكم لن تزالوا في صلاةٍ ما انتظرتم الصلاة)) .
قد تقدم في ((باب: وقت العشاء)) بسياق أتم من هذا.
والمقصود منه هاهنا: إقباله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوجهه بعد الصلاة.
وخرّج مسلمٌ في ((صحيحه)) من حديث البراء بن عازبٍ، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحببنا أن نكون عن يمينه؛ ليقبل علينا بوجهه.
قال: فسمعته يقول: ((رب قني عذابك يوم تبعث عبادك)) - وفيه: ذكر الدعاء بعد الصلاة –أيضاً.
وخرّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث يزيد بن الأسود، قال: صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان إذا انصرف انحرف.
وصححه الترمذي.
وفي رواية بعضهم: فصلى، ثم انحرف.
وروى عبد الله بن فروخٍ: أنا ابن جريج، عن عطاءٍ، عن أنس بن مالكٍ، قال: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان ساعة يسلم يقوم، ثم صليت مع أبي بكر، فكأن إذا سلم وثب مكانه، كانه يقوم على رضفٍ.
خرّجه البيهقي.
وقال: تفرد به عبد الله بن فروخ المصري، وله أفرادٌ، والله أعلم.
قلت: وثقه قومٌ، وخرج له مسلمٌ في ((صحيحه)) ، وتكلم فيه آخرون.

الصفحة 417