كتاب فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود (اسم الجزء: 1)

وقد يتكلم على الحديث بالتضعيف البالغ خارج السنن، ويسكت عنه فيها، ومن أمثلته: ما رواه في السنن من طريق: محمد بن ثابت العبدي، عن نافع، قال: انطلقت مع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في حاجة إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فذكر الحديث في الذي سلَّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يرد عليه، حتى تيمم ثم رد السلام، وقال: "إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني لم أكن على طهر"، لم يتكلم عليه في السنن، ولما ذكره في كتاب التفرد قال: "لم يتابع أحدٌ محمد بن ثابت على هذا" ثم حكى عن أحمد بن حنبل أنه قال: "هو حديث منكر".
وأما الأحاديث التي في إسنادها انقطاع أو إبهام: ففي الكتاب من ذلك أحاديث كثيرة، منها: وهو ثالث حديث في كتابه: ما رواه من طريق: أبي التياح قال: حدثني شيخ، قال: لما قدم ابن عباس البصرة كان يحدِّث عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه، فذكر حديث: "إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله": لم يتكلم عليه في جميع الروايات، وفيه هذا الشيخ المبهم، إلى غير ذلك من الأحاديث التي يمنع من الاحتجاج بها ما فيها من العلل.
فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته؛ لما وصفنا أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة، ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه، والمعتمد على مجرد سكوته لا يرى الاحتجاج بذلك فكيف يقلده فيه.
وهذا جميعه إن حملنا قوله: "وما لم أقل فيه شيئًا فهو صالح" على أن مراده: أنه صالح للحجة، وهو الظاهر، وإن حملناه على ما هو أعم من ذلك، وهو الصلاحية للحجة أو للاستشهاد أو للمتابعة: فلا يلزم منه أنه يحتج بالضعيف.
ويحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي يسكت عليها وهي ضعيفة: هل فيها إفراد أم لا؟ إن وجد فيها إفراد: تعين الحمل على الأول، وإلا حمل على الثاني، وعلى كل تقدير: فلا يصلح ما سكت عليه للاحتجاج مطلقًا.
وقد نبَّه على ذلك الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى، فقال: "في سنن أبي داود أحاديث ظاهرة الضعف لم يبينها؛ مع أنه متفق على ضعفها، فلا بد من تأويل كلامه"، ثم قال:"والحق: أن ما وجدناه في سننه مما لم يبيِّنه، ولم ينصَّ على صحته أو حسنه أحد ممن يعتمد: فهو حسن، وإن نصَّ على ضعفه مَن يعتمد، أو رأى العارف في سنده ما يقتضي الضعف ولا جابر له: حكم بضعفه، ولم يلتفت إلى سكوت أبي داود".

الصفحة 16