كتاب فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود (اسم الجزء: 1)

قال: فهالني قوله، وسكتُّ متفكرًا، وأطرقت نادمًا، فلما رأى ذلك مني، قال: فإن لا تُطِق احتمال هذه المشاق كلها؛ فعليك بالفقه الذي يمكنك تعلمه وأنت في بيتك قارٌّ ساكنٌ، لا تحتاج إلى بُعد الأسفار ووطي الديار، وركوب البحار، وهو مع ذا ثمرة الحديث، وليس ثواب الفقيه بدون ثواب المحدث في الآخرة، ولا عزه بأقل من عز المحدث.
فلما سمعت ذلك نقص عزمي في طلب الحديث، وأقبلت على علم ما أمكنني من علمه بتوفيق الله ومنه، فلذلك لم يكن عندي ما أمليه على هذا الصبي يا أبا إبراهيم.
فقال أبو إبراهيم: إن هذا الحديث الذي لا يوجد عند أحد غيرك خير من ألف حديث يوجد مع غيرك. اهـ كلامه.
ساق هذه القصة بإسناده: القاضي عياض في الإلماع (٢٩ - ٣٤)، والمزي في التهذيب (٢٤/ ٤٦١ - ٤٦٤)، والسيوطي في تدريب الراوي (٢/ ١٥٦ - ١٥٨).
ولهذه القصة معانٍ ودلالات، والذي قصدته من إيرادها: التنويه بشأن هؤلاء الأئمة، أئمة الحديث والأثر، ومدى اعتنائهم بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبذل أعمارهم وأغلى ما لديهم للوقوف على طرقه وأسانيده، سواءً في ذلك المسند والمرسل والموقوف والمقطوع، مما به تتبين وتظهر علة الحديث، ويظهر صحيحه من سقيمه، ولذلك فقد اجتهدوا في جمع ما أمكن جمعه من حَمَلَته الذين يحملونه في زمانهم، حتى إن بعضهم كان يرحل الأيام والليالي في طلب حديث واحد [انظر في هذا: الجامع لأخلاق الراوي (٢/ ٢٢٥)].
وبعد جمعهم للأحاديث وطرقها وأسانيدها اجتهدوا في تمحيصها، وتمييز الصحيح منها من الضعيف، والمحفوظ من الشاذ، والمعروف من المنكر، وعرفوا بذلك الأفراد والغرائب والمناكير، بل وصنفوا فيها تمييزًا لها عن الصحاح والمشاهير، والحجة عندهم في ذلك: الحفظ والفهم والمعرفة [انظر: معرفة علوم الحديث (١٥١)].
وقد أعانهم على ذلك: معرفة الصحابة والتابعين وتابعيهم وأتباعهم وسائر العلماء والرواة، وأسمائهم وكناهم وألقابهم وطبقاتهم وأنسابهم وقبائلهم وبلدانهم وأزمنتهم، لتمييز الرواة بعضهم من بعض.

الصفحة 8