كتاب فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود (اسم الجزء: 7)

منها يعارض الآخر، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في علته صلاتين في المسجد جماعةً، لا صلاةً واحدةً، في إحداهما كان مأمومًا، وفي الأخرى كان إمامًا، والدليل على أنهما كانتا صلاتين لا صلاة واحدة: أن في خبر عبيد الله بن عبد الله عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج بين رجلين يريد أحدهما العباس والآخر عليًّا، وفي خبر مسروق عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج بين بَرِيرة ونُوبة، فهذا يدلك على أنهما كانتا صلاتين لا صلاة واحدة".
قلت: إذا ظهر لنا أن رواية شبابة شاذة، فلا يُبنى عليها حكم، وكما قلنا فإن رواية نعيم بن أبي هند لا تخالف رواية عاصم، بل كلاهما يدلان على أن أبا بكر كان مأمومًا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إمامًا في هذه الواقعة التي تحكيها عائشة، والله أعلم.
وقال ابن عبد البر في التمهيد (٢٢/ ٣٢١): "ورواية من روى أن أبا بكر كان المقدم مجملة محتملة للتأويل؛ لأنه جائز أن تكون صلاة أخرى، ولو صح أنها كانت صلاة واحدة: كان في رواية من روى عن عائشة وغيرها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان المقدم زيادة بيان؛ لأنه قد أثبت ما قاله غيره من تقدُّمِ أبي بكر وزاد تأخُّرَه وتقدُّمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن روى أن أبا بكر كان المقدَّم لم يحفظ قصة تأخُّرِه وتقدُّمِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقدير ذلك أن تكون جماعتهم رأوا أبا بكر في حال دخوله في الصلاة، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهى إلى الصف الأول والصفوف كثيرة، علم مَن قرُب تغير حال أبي بكر، وانتقال الإمامة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلم ذلك مَن بعُد، فلهذا قلنا: إن من نقل انتقال الإمامة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم ما خفي على من قال: إن الإمام كان أبا بكر، وقد يحتمل وجهًا آخر: وذلك أن يكون أراد القائل أن أبا بكر كان الإمام يعني: كان إمامًا في أول الصلاة، وزاد القائل بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إمامًا يعني: أنه كان إمامًا في آخر تلك الصلاة، هذا لو صح أنها كانت صلاة واحدة، ولو جاز أن يكون رواية عائشة متعارضة، لكانت رواية ابن عباس التي لم يختلف فيها قاضية في هذا الباب على حديث عائشة المختلف فيه، وذلك أن ابن عباس قال: إن أبا بكر كان يصلي بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقتدي به، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، كما قال هشام بن عروة عن أبيه في حديث عائشة، فبان برواية ابن عباس أن الصحيح في حديث عائشة الوجه الموافق لقوله، وبالله التوفيق".
قلت: لا مانع من كون النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى مأمومًا خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه، كما نقله شعبة في حديثه عن الأعمش [وتقدم من حديث عائشة]، وكما سيأتي تقريره في حديث أنس، لكن هذه الواقعة التي تنقلها لنا عائشة بهذا التفصيل إنما كانت في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن افتتح أبو بكر الصلاة بالناس، ثم جلس النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يسار أبي بكر، فصار إمامًا يقتدي به أبو بكر، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر، يُسمعهم التكبير، فلم نعُد بحاجة إلى هذه التأويلات، وقد اعتمد الشيخان في صحيحيهما رواية عبيد الله بن عبد اللَّه بن عتبة، ورواية الأسود، واللتين جاء فيهما التصريح بما قد ذكرت، وأعرضا عن رواية مسروق التي وقع فيها هذا الاختلاف، مع أنك تجدها عند التحقيق وإمعان النظر ترجع إلى رواية عبيد الله والأسود، والله أعلم.

الصفحة 37