كتاب فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود (اسم الجزء: 8)

برقم (٦٨٧)، يدل على أن عادة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كانت تحمل له العنزة في السفر والفضاء، لكي يستتر بها في الصلاة، وهو نفس المعنى الذي لأجله كان أنس يحمل العنزة، فقد قال أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغُلامٌ نَحْوِي إِداوةً من ماء وعَنَزة، فيستنجي بالماء [متفق عليه، وتقدم برقم (٤٣)]، وهذا هو ما فعله بلال في الأبطح بمكة في حجة الوداع، حيث ركزها بين يديه - صلى الله عليه وسلم -، ليصلي إليها، كما في حديث أبي جحيفة، ومما يدل على اتخاذه - صلى الله عليه وسلم - للسترة في السفر أيضًا كما في الحضر: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: هبطنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثنيَّة أذاخِرَ، فحضرت الصلاة، فصلَّى -يعني: إلى جِدار- فاتخذه قبلةً ونحن خلفه، فجاءت بَهْمة تمرُّ بين يديه، فما زال يُدارِئُها حتى لصِق بطنُه بالجدار، ومرَّت من ورائه [وهو حديث حسن، تقدم برقم (٧٠٨)]، فلما كانت هذه عادته - صلى الله عليه وسلم - في حضره وسفره، فمن الممكن أن يكون ابن عباس أغفل ذكرها في هذا الحديث لكونها معلومة، لا تخفى على أحد، والله أعلم.
فإن كان ابن عباس يريد بقوله: "إلى غير جدار" نفي مطلق السترة لعبر بأقل ما يطلق عليه اسم السترة، مثل: العنزة والحربة ومؤخرة الرحل ونحو ذلك، ولما احتاج إلى التعبير عنها بأكبر ما يطلق عليه اسم السترة كالجبل والجدار ونحوه، ولما عبر بالأخص عن الأعم، وعلى هذا: فالذي يظهر لي من قول ابن عباس: "إلى غير جدار" أنه أراد به التنبيه على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في فضاء إلى غير جدار؛ لا أنه أراد نفي مطلق الاستتار؛ فإن صلاته - صلى الله عليه وسلم - إلى غير جدار لا يلزم منه عدم وجود سترة، كالعنزة ونحوها مما كان يستتر به - صلى الله عليه وسلم - في صلاته في السفر والفضاء، كما قال ابن دقيق العيد في الإحكام (١/ ٢٨٤): "ولا يلزم من عدم الجدار عدم السترة"، وكما قال ابن الملقن في الإعلام (٣/ ٣٢١): "لأنه لا يلزم من عدم الأخص عدم الأعم"، ويؤيد هذا المعنى الذي ذهبت إليه ما جاء في حديث أبي الصهباء عن ابن عباس (٧١٦ و ٧١٧)، حيث قال في رواية جرير وزائدة عن منصور: يصلي بالناس في أرض خلاء، وهو حديث ضعيف؛ وهو صالح للاستشهاد به في هذا الموضع، وإن كان قد أخطأ راويه في مواضع من سياقه، لا سيما من رواية شعبة [كما سيأتي بيانه في موضعه].
وهذا الذي قررته هو ما ذهب إليه جماعة من المحدثين لما ترجموا لهذا الحديث: أ- فهذا الإمام البخاري عقد في صحيحه بابًا في كتاب الصلاة، فقال: "باب سترة الإمام سترة من خلفه" [برقم (٩٠)]، ثم أسند تحته ثلاثة أحاديث، الأول (٤٩٣): حديث ابن عباس هذا، بزيادة: "إلى غير جدار"، ثم حديث ابن عمر في الاستتار بالحربة (٤٩٤) [المتقدم ذكره آنفًا]، ثم حديث أبي جحيفة في الاستتار بالعنزة (٤٩٥) [المتقدم ذكره آنفًا]، وذِكر هذه الأحاديث الثلاثة في نسق واحد تحت هذه الترجمة مما يدل على أن حديث ابن عباس لا يخالف حديثي ابن عمر وأبي جحيفة، بل يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مستترًا على عادته بالعنزة، إلا أن ابن عباس لم يصرح بها، والله أعلم.

الصفحة 71