كتاب فضل الرحيم الودود تخريج سنن أبي داود (اسم الجزء: 17)

والتابعين، لا يُعارَض به الأحاديث الثابتة المرفوعة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في الانشقاق والعلق بالمدينة، ويأتي تفصيل ذلك؛ إذ لا حجة في قول أحد من الخلق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكيف! وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين وغيرهم العمل بما يوافق سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو مرجح خارجي، يدل على كون الحكم محكمًا، وليس منسوخًا، والله أعلم.
قال ابن عبد البر في الاستذكار (٢/ ٥٠٤): "وروى مالك عن ابن شهاب عن الأعرج؛ أن عمر سجد في {وَالنَّجْمِ}.
وقد روى ابن وهب عن مالك إجازة ذلك، وقال: لا بأس به.
وهو قول: الثوري وأبي حنيفة والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأحمد بن حنبل وداود.
وروي ذلك عن: أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعمار وأبى هريرة وابن عمر -على اختلاف عنه-، وعمر بن عبد العزيز، وجماعة من التابعين.
ورواه ابن القاسم وجمهور من أصحاب مالك عن مالك -وهو الذي ذهب إليه في موطئه-: أن لا سجود في المفصل.
وهو قول أكثر أصحابه، وطائفة من المدينة، وقول: ابن عمر وابن عباس وأبي بن كعب.
وبه قال: سعيد بن المسيب والحسن البصري وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وطاووس وعطاء وأيوب، كل هؤلاء يقولون: ليس في المفصل سجود، بالأسانيد الصحاح عنهم.
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري: أدركت القراء لا يسجدون في شيء من المفصل".
ثم نقل قول مالك في الموطأ (١/ ٥٥٣/٢٨٤ - رواية يحيى الليثي (١٤١ - رواية القعنبي) (٢٦٥ - رواية أبي مصعب): "الأمر عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة، ليس في المفصل منها شيء". [وقال نحوه في التمهيد (١٨/ ١١٩ و ١١٢١].
وقال في التمهيد (١٩/ ١٢٥): "احتج من أنكر السجود في المفصل: بقول أبي سلمة لأبي هريرة: لقد سجدت في سورة ما رأيت الناس يسجدون فيها، قالوا: فهذا دليل على أن السجود في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)} كان قد تركه الناس، وجرى العمل بتركه في المدينة، فلهذا كان اعتراض أبي سلمة لأبي هريرة في ذلك.
واحتج من رأى السجود في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)} وفي سائر المفصل: بأن أبا هريرة رأى الحجة في السُّنَّة، لا فيما خالفها، ورأى أن من خالفها محجوج بها.
وكذلك أبو سلمة لما أخبره أبو هريرة بما أخبره به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكت؛ لما لزمه من الحجة، ولم يقل له: الحجة في عمل الناس؛ لا فيما تحكي أنت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل علم أن الحجة فيما نزع به أبو هريرة، فسلم وسكت.
وقد ثبت عن أبي بكر وعمر والخلفاء بعدهما: السجود في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)}؛ فأي عمل يدعى في خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين بعده".

الصفحة 51