كتاب المقدمة في فقه العصر (اسم الجزء: 1)

والتشريح في الطب لجثة مسلم محرم شرعا؛ لأن حرمته ميتا كحرمته وهو حي «كسر عظم ميت ككسره وهو حي» (¬1).
ولأن تكريم الإنسان مقصد شرعي (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، وهذا عامٌّ في الحياة والممات، والتشريح ليس من التكريم.
وعندي امتناع في تشريح جثة غير مسلم ولو حربيا؛ لأنه كالمثلة، وهي محرمة لذاتها، فهي علة ذاتية مستقلة حتى لا يقال إن العلة خوف المجازات بالمثل في الحرب.
ولذا امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة لجثة حربي كافر في الحرب مع تمثيلهم بمسلمين مع أن العموم ظاهر في (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (البقرة: 194)، (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40).
فتركه ذلك دليل على قصد المنع منها، ولمخالفٍ العمل بفتوى غير هذه.
ويجوز تشريح حيوان من الأنعام لجواز ذبحه وتقطيعه وهو أبلغ من التشريح.
ويجوز كذلك من غير الأنعام تشريح حيوان؛ لأن التشريح من وسائل المداواة؛ لدفع الضرر البالغ عن البشر، وكل ما في الأرض خلق لنفعه (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29)، ومن أعظم منافعه المداواة، ومن أهم وسائلها التشريح للحيوان فجاز؛ لأن للوسائل أحكام ما تُوُسِّلَ بها إليه، ولقوله تعالى في المسائل التي لم ينص على حرمتها (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101)، فدل على جواز الانتفاع بها تشريحا للتعلم وللتجارب.
ولجواز صيدها للانتفاع بجلدها أو عظمها في لبس وأثاث وزينة، فمن باب أولى تشريحها للطب.
وعمل تجارب على الفئران والخنازير وغيرها جائز من هذا الباب؛ لعموم خلق ما في الأرض لمنافع الإنسان (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) (البقرة: 29).
¬_________
(¬1) - أخرجه أبو داود برقم 3209 بلفظ (عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «كسر عظم الميت ككسره حيا»). قلت: سند أبي داود حسن. وفيه سعد بن سعيد، قال الذهبي في الكاشف ملخصا كلام العلماء فيه: صدوق. قلت: وبقية رجاله ثقات. ثم اطلعت على تحسين ابن القطان له، نقله عنه الألباني في الجنائز (1/ 233).

الصفحة 115