كتاب المقدمة في فقه العصر (اسم الجزء: 1)

بالدعوة، ولجواز الهجرة إلى المدينة وغيرها والإقامة فيها بعد الفتح إلى يوم القيامة.
وعموم أحكام الشريعة، زمانا، ومكانا، وأشخاصا على كل مكلف.
ورخصها شرعت لحفظها (¬1).
والإسلام قائم على الوسطية ورفع الحرج، فكل أحكامه يسر لا إفراط ولا تفريط (¬2).
والمشقات المصاحبة للتكليف الجارية مجاري العادات غير معتبرة، كمشقة الجهاد، والحج، والجوع في الصوم، والبرد لصلاة الفجر (¬3).
وإنما تدفع المشقة إن خرجت عن العادات، وما خرج عن العادات خرج عن الاستطاعة.
ولا تخرج عن العادات إلا إن أدت المشقة إلى ضرر معتبر، وهو: ما أدى إلى إتلاف نفس، أو عضو، أو مال، أو شين فاحش، أو خلل في التعبد وانقطاع عنه (¬4).
وهنا تجرى قاعدة: المشقة تجلب التيسير.
والفرق بينها وبين قاعدة (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78) أن هذه أصل الشريعة، وقاعدة «المشقة تجلب التيسير» للطوارئ الخارجة عن الاستطاعة.
ولا يؤخذ منها التساهل.
¬_________
= استدعى الأمر ذلك. فإن قال قائل: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح» وهذا عام؟ والجواب: أن النفي هنا لرفع التكليف على كل مسلم أن يهاجر إلى المدينة. وكان ذلك قبل فتح مكة، وجوبا. فلما فتحت مكة وأعز الله الإسلام ودولته وشعبه سقط وجوب الهجرة إلى المدينة بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية». أي: لا هجرة واجبة؛ لأنه من أراد أن يهاجر مستوطنا المدينة بعد الفتح إلى يوم القيامة جاز له، ولو حمل الحديث على عمومه؛ لكان تقديره (لا يهاجرن أحد إلى المدينة بعد اليوم) لا وجوبا ولا إباحة، لكان هذا تحريما لاستيطان المدينة من غير أهلها الموجودين أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا غير مراد قطعاً.
(¬1) - قولنا «ورخصها شرعت لحفظها» بين ذلك الشاطبي في بدايات جزء المقاصد من كتابه الموافقات بيانا شافيا.
(¬2) - قولنا «لا إفراط ولا تفريط» في كتابي في المقاصد -يسر الله طباعته- قررت أن من مقاصد الشريعة الوسطية والاعتدال. والأدلة على ذلك كثيرة، ومنها قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة: 143).
(¬3) - انظر جزء المقاصد للشاطبي عند كلامه على المشقات وتعريفها وضوابطها.
(¬4) - قولنا «أو خلل .. » قلت: هذا تعريف للإمام الشاطبي وهو تعريف خماسي أخذته من كتابه الموافقات في جزء المقاصد فراجعه.

الصفحة 133